الرأي

وهم الحرية في زمن الترند

نوال حسن المطيري


في عالم يقاس فيه الحضور بعدد الإعجابات والمشاركات، يبدو الإنسان حرا في كل كلمة يكتبها وكل رأي يصرح به. لكن عند التأمل، تتكشف الحقيقة: كثير من تلك الحرية مجرد وهم دقيق، نافذة صغيرة نطل منها على ذواتنا ونحن في الواقع مقيدون بسلاسل خفية من الانفعال الجمعي.

على منصات التواصل، تنتشر الموجات بسرعة الضوء. غضب، فرح، استهجان، إعجاب... كل شعور يتحول إلى عدوى نفسية تتنقل بين المستخدمين بلا وعي. ما يسمى في علم النفس بالعدوى الاجتماعية يفسر كيف يمكن لمجموعة من الناس أن تتأثر بمشاعر الآخرين، فتسلك سلوكا جماعيا متناسقا، حتى ولو كان بعيدا عن وعيهم الفردي. هنا، الحرية تصبح نسبية: نحن لا نختار الرأي بقدر ما ننساق وراء موجة عاطفية تراكمت وتضخمت حتى صارت قانونا ضمنيا يحدد ما هو مقبول أو مرفوض.

والأمر الأكثر خطورة هو أن الكثيرين لم يعودوا واعين لانصياعهم الجماعي؛ بل يعتقدون أنهم يمارسون حرية الرأي. وهذا الوهم يعكس تأثير إدمان الشاشات ووسائط التواصل الاجتماعي، الذي أضعف الفردية الفكرية وجعل العقل معتادا على المعلومات الجاهزة، السريعة، السطحية، دون بحث أو تمحيص. بهذا، يصبح الإنسان متلقيا أكثر من كونه مفكرا، ويتحول إلى جزء من موجة توجهه أينما أرادت، غالبا بلا وعي أو تدقيق.

وهذا يقودنا إلى مفهوم العقل الجمعي عند عالم الاجتماع غوستاف لوبون، الذي يرى أن الفرد في سياق الجماعة يمكن أن يفقد جزءا من حكمه العقلاني، وينساق وراء المشاعر والانفعالات الجمعية. على الإنترنت، هذا العقل الجمعي يتخذ شكلا أكثر قوة وشفافية: لا وجود للحدود المكانية، لا حواجز للزمن، ولا فرصة للاختباء من تأثير الآخر. كل كلمة تكتب يمكن أن تفاقم شعورا جماعيا، وتحول المستخدم من متابع منفصل إلى جزء من موجة متحدة، تتصاعد وتغمر الجميع.

من زاوية فلسفية، الحرية في هذا السياق تصبح سؤالا وجوديا: هل الإنسان حر عندما يعبر عن رأيه على السوشال ميديا، أم أنه مجرد انعكاس لتيار جماعي يوجهه دون أن يدرك؟ يبدو أن ما نسميه «حرية التعبير» أصبح صورة مطموسة عن الحرية الحقيقية، الحرية التي تتطلب وعيا بالنفس، إدراكا للذات، وتمييزا بين الرأي الشخصي والانفعال المتراكم من الآخرين.

ولعل أكثر ما يربك النفس البشرية هو التناقض بين الرغبة في الانتماء والخوف من الاستبعاد. فكما تشرح نظرية الانصياع الاجتماعي في علم النفس، يميل الأفراد إلى تعديل سلوكهم أو آرائهم لتتوافق مع توقعات المجموعة، حتى لو تعارض ذلك مع قناعاتهم الداخلية. وهكذا، تتحول السوشال ميديا إلى مسرح كبير للانصياع، حيث يتحرك الجميع بتزامن كأنهم جزء من قصيدة جماعية غير مرئية.

في النهاية، وهم الحرية في زمن الترند ليس مجرد مصطلح فلسفي، بل حقيقة نفسية واجتماعية تتطلب وقفة عميقة: علينا أن نعي أنفسنا قبل أن ننجر مع أي موجة، أن نفرق بين الرأي الشخصي والانفعال الجمعي، وأن نبحث عن مساحة للصمت والتأمل في عالم يغمره الصخب الرقمي. فالحياة، حتى على الإنترنت، تحتاج إلى لحظات من الوعي الفردي الحقيقي، حيث يمكن للفرد أن يقف على حافة موجة الجماهير ويقول لنفسه «أقف على حافة الموجة وأقرر بنفسي، لا أنساق معها».