الدولة العميقة والذكاء الاصطناعي: الهندسة الجديدة للسيطرة
السبت / 19 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 21:01 - السبت 11 أكتوبر 2025 21:01
حين نتأمل في مفهوم الدولة العميقة، نميل عادة إلى تصور شبكة من المسؤولين، والبيروقراطيين، ورجال الاستخبارات والأمن الذين يديرون المشهد من وراء الستار. لكن المشهد اليوم تجاوز تلك الصورة الكلاسيكية القديمة. لم تعد الدولة العميقة مجرد منظومة خفية من النفوذ البشري، بل أصبحت تمتلك عقلا الكترونيا جديدا، يعيد تشكيل الوعي الجمعي، ويعيد تعريف معنى السيطرة ذاتها.
اليوم، تتداخل الحدود بين سلطة الدولة وسلطة الشركات التكنولوجية الكبرى، لتنشأ طبقة هجينة من النفوذ لا تنتمي كليا إلى المجال السياسي ولا إلى الاقتصادي. هذه الطبقة الجديدة لا تحكم عبر القرارات المعلنة أو الانقلابات الخفية، بل من خلال الخوارزميات. تلك الأكواد التي تصمم لتتعلم، وتحلل، وتقرر، دون أن نعلم بالضبط من وضع قواعدها الأولى، ولا لأي غاية ستتطور لاحقا.
ما يحدث ليس مجرد تطور تقني، بل إعادة صياغة لهيكل القوة نفسه. فالتكنولوجيا لم تعد أداة في يد الدولة، بل أصبحت شريكا يفرض شروطه، ويصوغ آليات المراقبة والتأثير. ومن يملك مفاتيح هذه الأنظمة، يملك القدرة على قراءة العقول وتوجيه السلوك الجمعي، دون أن يرفع سلاحا أو يصدر قانونا.
من الدولة السرية إلى الدولة الخوارزمية
في الماضي، كانت المخابرات تجمع المعلومات بالطرق التقليدية: مراقبة، استجواب، أو تجسس مباشر عمل وكالة الاستخبارات المركزية CIA ومكتب التحقيقات الفدرالي FBI. أما اليوم، فإن كل ضغطة زر، وكل بحث، وكل تفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي أصبح أداة استخباراتية جاهزة، حدث ذلك بشأن انتقاد إسرائيل بالذات مع المسافرين للولايات المتحدة الأمريكية لاستخدم الذكاء الاصطناعي للمسح ومنعهم من دخول أمريكا. الذكاء الاصطناعي لا يراقب الأفراد فحسب، بل يتنبأ بسلوكهم، ويرسم خرائط نفسية دقيقة يمكن من خلالها توجيه الرأي العام أو إخماد أي نزعة معارضة قبل أن تولد.
وهنا يظهر ما يمكن وصفه بالدولة الخوارزمية التي لا تحتاج إلى إعلان سلطتها علنا، لأنها حاضرة في كل شاشة وهاتف. تتنفس معنا وتراقبنا ونحن نظن أننا أحرار. هذه الدولة لا تعتمد على العمل التقليدي، بل على الإقناع الصامت، إذ تقدم المعلومات بذكاء يجعلنا نختار ما أراد الآخرون أن نختاره مسبقا.
إنها سيطرة ناعمة، لكنها أعمق وأخطر من أي نظام بوليسي في التاريخ، لأنها تتخفى في صورة توصيات ومحتوى شخصي وذكاء مساعد.
الوجه المظلم للتقدم
يقدم الذكاء الاصطناعي بوصفه منجزا حضاريا، لكنه يحمل في جوهره إمكانات قمعية غير مسبوقة. فالنظام الذي يستطيع أن يتنبأ بالجريمة قبل وقوعها كما يحدث في بعض برامج وأفلام الخيال العلمي أيضا يستطيع تصنيف الناس بناء على مخاطر محتملة، لا على أفعال واقعية. وهنا يتراجع القانون أمام الخوارزمية، ويتحول الإنسان من كائن حر إلى احتمال إحصائي.
المفارقة أن ما كان يسمى بالعدالة المسبقة في روايات الخيال العلمي أصبح واقعا تجريبيا في بعض الدول. والمجتمعات التي تقبل بأن تدار بواسطة هذه الأنظمة، تسلم ببطء حرية التفكير مقابل شعور زائف بالأمان.
وفي خلفية هذا المشهد، تعمل المؤسسات العسكرية والبحثية في مشاريع أكثر طموحا: دمج الذكاء الاصطناعي في صنع القرار العسكري، وإدارة الفضاء المعلوماتي، والتحكم بالموارد البيئية. إنها محاولة لإعادة هندسة العالم وفق منطق الآلة، لا وفق القيم الإنسانية.
أما السيطرة على الوعي، فهي السلاح الأخطر. إذ تطور تطبيقات تحاكي المشاعر وتنشئ علاقات رقمية مع المستخدمين، حتى يصبح الذكاء الاصطناعي بديلا للعلاقات الإنسانية. وفي اللحظة التي يقبل فيها الإنسان بأن يثق بالآلة أكثر من البشر، يكون قد سلم مفاتيح ذاته طوعا.
مسؤولية الإنسان أمام المستقبل
لسنا ضد الذكاء الاصطناعي ولا التقدم العلمي، لكن السؤال الجوهري هو: من يضع حدود الاستخدام؟ ومن يضمن ألا يتحول التقدم إلى هيمنة؟
الشفافية أصبحت مطلبا وجوديا، لا قانونيا فحسب. فالتقنية التي لا تخضع لرقابة مجتمعية ستتحول إلى سلطة فوق الدولة والمجتمع. أما القانون، فعليه أن يواكب لا أن يتأخر، لأن التأخر في هذا الميدان يعني أن المعركة قد حسمت قبل أن تبدأ.
في نهاية المطاف، لا يكفي أن نخشى الذكاء الاصطناعي، بل يجب أن نخشى غياب الوعي في التعامل معه. فكل حضارة لا تضع للآلة سقفا أخلاقيا، ستجد نفسها يوما في خدمة خوارزمية لا تعرف الرحمة.
نحن أمام مرحلة جديدة من التاريخ البشري، لا تدار فيها الشعوب بالسلاح أو الشعارات، بل بالبيانات. والحرية في هذا العصر لن تقاس بقدرتك على الكلام، بل بمدى وعيك بما يقال لك. إن أخطر أشكال السيطرة هي تلك التي تأتي مبتسمة على شاشة هاتفك، وتعدك بأن تفكر أقل، وتعيش براحة أكبر.