الرأي

فتل مطلق، ونقض صياف، ومعنى المسعودي

محمد سعد السريحي
اهتمام أبناء الجزيرة العربية بالشعر والشعراء قديم، وما زال إلى وقتنا الحاضر، فمعظمهم إما شاعر، أو يقدر على نظم البيت أو البيتين، أو متذوق للشعر، أو محب له، ولذلك تعددت أوجه الشعر، وزادت أنواعه، ومن أهم أنواعه شعر المحاورة، أو ما يسمى بشعر (القلطة)، ويكون بين شاعرين أو أكثر، فيبدأ الشاعر الأول بإلقاء بيتين أو أكثر، فيرد عليه الشاعر المقابل، مع ترديد الصفوف للشعر، ويستمر الرد بين الشعراء إلى آخر المحاورة الشعرية.

ويحتاج إلى بيئة حوله تشعل حماس الشعراء، بدءا من الصفوف التي تردد الأبيات الشعرية، إضافة إلى الجمهور، وزد عليها التصوير، والنقل، والإعلان عن المحاورة.

ومن أبرز مصطلحات شعر المحاورة التي نسمعها كثيرا: الفتل أو البدع، والنقض، والمعنى المدفون.

الفتل في شعر المحاورة يقصد به: أن يأتي الشاعر بمعنى في أبياته، موجها هذا المعنى للشاعر الذي يقابله، ولعل المصطلح جاء من (فتل الحبل). ويكمن إبداع الشاعر في إثارته لهذا المعنى، واختياره له، الذي غالبا لا يأتي بشكل مباشر وواضح، وربما معظم الحاضرين لا يعرفونه، وهذا المعنى قد يتعلق بحادثة سياسية، أو موقف بين المتحاورين، أو شأن ثقافي، أو اجتماعي.

وهذا يحتاج إلى قدرة إبداعية للشاعر ليأتي بمعنى بديع، وقوة شعرية تصوغ هذا المعنى وتربطه بالشاعر المقابل، وذكاء حاد في اختيار الرموز لمعناه المراد، لأنه في الغالب لا يأتي مباشرا، مما يبرز ثقافة الشاعر، واطلاعه، وقوته الشعرية.

أما النقض في شعر المحاورة فيقصد به: أن يرد الشاعر المقابل على هذا المعنى برأي مقنع، وحجة قوية، وقد ينقضه ويخالفه.

وهذا يحتاج من الشاعر عدة مهارات، من أهمها: الذكاء الشعري بأن يعرف المعنى المقصود - الذي غالبا لا يأتي مباشرة - وأن تكون لديه ثقافة في التراث الموروث، والحوادث القديمة، وأن يكون عالما بالمتغيرات الجديدة السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وبعد أن يعرف قصد الشاعر فلا بد أن يأتي بمعنى قوي ومقنع يرد به على من يقابله، وهذه تحتاج إلى ذكاء في المنطق وأساليب الرد، ولا بد للشاعر من توفر قدرة شعرية، وسعة لفظية، وبديهة حاضرة ليصوغ هذا الرد شعرا على الوزن والقافية نفسهما.

ولعل من الاحترافية في شعر المحاورة، ألا يرد الشاعر برد يقتل الكلام، فلا يدع مجالا للحوار فيه، بل يفتح مجالات جديدة في المعنى نفسه، أو يفتح معنى جديدا، حتى يعطي مجالا للمحاورة، فالليل طويل، وفي الوقت متسع.

ومن أمثلة الفتل - وقد اخترتها كنموذج فالأمثلة كثيرة - أبيات مطلق الثبيتي رحمه الله:

أحسبك تبكي صدق لكن دمعك دمع تمساح

يا زينها ذا الليل لو تنثر العينين ماها

باح الحطب والنار يا كبرها والقدر ما فاح

بعض القدور الشهب ما ودنا نكشف غطاها

ليأتيه النقض من صياف الحربي رحمه الله:

ما ني مجهز مدفع الحرب والصياح ما صاح

وأنت وراك تسوقها غصب والدرب يحداها

يا كثر خوف الجن والناس من قضاب الأرواح

أثر الشرودي يطيح فالنار ما يونس سناها

وجاء من ردوده في آخر المحاورة هذا البيت:

واحد من الرعيان يرعى الغنم ما هو بمصلاح

إليا لقى الشاة السمينة تعشى من كِلاها

هذه المحاورة أقيمت عام 1993م تقريبا، وما زال المحللون مختلفين في المقصود منها، فمنهم من يرى أن المعنى يدور حول حرب الخليج، والاكتفاء بتحرير الكويت دون إزالة صدام، وهذا ما رجحه الشاعر الكويتي سعد علوش، والذي يرى أنهما تنبَّآ باحتلال العراق والتجهيز لاحتلاله سنة 2003م. في حين يرى آخرون أن المعنى يدور حول شاعر آخر حاضر معهم، لكنه لم يشاركهم المحاورة. بينما يوجهها آخرون إلى مواقف خاصة بين الشاعرين رحمهما الله، والله أعلم.

وينتشر في فن المحاورة المعنى المدفون، وهو معنى لا يفهم من الأبيات مباشرة، بل يحتاج إلى تحليل لفهمه، أي: أنه معنى مبطن داخل الأبيات الشعرية.

ومن أمثلة ذلك قول عبد الله المسعودي رحمه الله:

نهاية يوم ذي الحجة بداية ليل من عاشور

ألا يا مرحبا والمملكة بأحلى لياليها

قيل هذا البيت قبل أكثر من أربعين عاما، ومع ذلك نجد المهتمين بهذا الشعر، مختلفين في تفسير المقصود منه إلى وقتنا الحاضر، فقيل: موت رئيس عربي، وقيل: زيارة الرئيس الأمريكي للمملكة ذاك الوقت، وقيل: ثبات المملكة على الحق بقوة ونصرها أمام خصومها بفضل الله وتوفيقه ثم بقيادة ملوكها، وقيل: نصر حكومتنا - رعاها الله - في دحض الإرهابيين الذين احتلوا المسجد الحرام في ذلك الوقت، واستبعد بعضهم هذا التفسير لأنه يرى أن الشاعر توفي قبل هذه الحادثة، وقيل: غير ذلك، والله أعلم.

فشعر المحاورة بهذه المزايا يحتاج إلى توفر: ذهن متقد، وذكاء حاد، وثقافة قوية، وسرعة بديهة، وموسوعة لفظية، وشاعرية عالية، وسرعة في النظم.

وهذه الصفات قلما تجتمع في أحد، لذلك يلجأ الشاعر العاجز الضعيف في واحدة أو أكثر من هذه الصفات إلى حيل سهلة وضعيفة ورخيصة، وفي الوقت نفسه تجلب له الجمهور، وتسرع في انتشاره، وتزيد من الطلب عليه في المحاورات، وهي تعتمد في مجملها على مبدأ (ما يطلبه الجمهور): فإما يتجه نحو السخرية من الشاعر المقابل، مما يثير الضحك والإعجاب من الجمهور، وإما ينزلق إلى النعرات القبلية معتمدا على تأييد أفراد قبيلته، فتجد جمهوره ينافح عنه ويشجعه عصبية للقبيلة أكثر من إعجابه بشعره، أما المصيبة الكبرى حين يتجه الشاعر إلى الفحش، والكلام البذيء، والعياذ بالله.

إن هذا المسلك يجعلنا كأننا أمام زمرة مراهقين قليلي التربية، مسيئي الأدب، فاحشي الأخلاق، يتسابون مع بعضهم، ويشتم بعضهم بعضا.

فمن يسلك أحد هذه المسالك من الشعراء فمن الخير أن يقال له: اتق الله، واعلم أنك محاسب على ما تقول، وتذكر قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)،واعلم أنه يشاهدك الصغير والكبير، والرجل والمرأة، وابن البلد وغيره، فإنك تشوه هذا الشعر بهذا المسلك، واعلم أن ما تقدمه رخيص الشعر، وأنه مسجل وسيحكم عليه المتلقون، فكثير من هذا النوع من المحاورات ما زالت تعرض اليوم من عشرات السنين، ويحتقر المتلقون شعرهم، ويرخصونه، وينتقدونه بأبشع العبارات، وحتى الجمهور المعجب بك اليوم سيكبر وسيتغير رأيه فيك، وسيراك من أرخص الشعراء.

أما إذا كان الشاعر لا يجيد إلا هذه المسالك، ولا تتوفر فيه صفات شاعر المحاورة، فمن الأحرى أن نقول له: اعتزل شعر المحاورة، واطرق بابا آخر للشعر، فأبوابه كثر.

وما قيل في الشاعر يصدق أيضا في منظم الحفل، والمؤثرين في هذا الشعر من النقاد والجمهور والمتابعين وغيرهم.

قبل النقطة: اليوم قد كثر شعراء المحاورة، وانتشر مريدو هذا الفن والمهتمون به، واتسعت وسائل انتشاره، وصار يروى في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وصارت له برامج وفعاليات... فنحتاج إلى وقفة جادة، ونشر للوعي، والتزام مجتمعي فعال، وإجراءات فاعلة لتصحيح المسار، وتعزيز الحسن، ومحاربة القبيح.