الرأي

كثر شطة...

فؤاد بنجابي
لا أزال أتذكر صديقا لي في المرحلة الابتدائية وهو يقف عند مقصف المدرسة ويقول للبائع بثقة 'كثر شطة' كان الموضوع بالنسبة لي بسيطا جدا؛ مجرد طفل يحب الطعام الحار ويريد أن يزيد من حرارة وجبته... غير أنني علمت لاحقا أنه لم يكن يحب الطعام الحار أصلا! فاستوقفني الأمر لماذا يطلب ما لا يحبه؟ حينها مر الموقف دون أن أفهمه، لكن مع مرور السنين بدأت أرى أن هذه الجملة الصغيرة تختزل سلوكا إنسانيا واسعا، يتكرر في حياتنا بأشكال كثيرة. ففي أيام الدراسة، كنت أرى زملائي في مطاعم الوجبات السريعة يصرون على طلب المزيد من الصلصات: كاتشب، مايونيز، أو أي إضافات أخرى. لكن الغريب أنهم لم يستهلكوها، بل يتركونها في الأكياس أو تلقى في ثلاجات بيوتهم حتى تنتهي صلاحيتها... تكدست تلك الأكياس في أدراج المطبخ وباب الثلاجة وكأنها غنائم معركة صغيرة، لا حاجة لها في الحقيقة.

حين كبرت ودخلت سوق العمل، اكتشفت أن 'كثر شطة' لم تكن مجرد عبارة في مقصف المدرسة، بل هي عقلية كامنة وراء كثير من التعاملات اليومية... لا أنسى ذلك اليوم حين أصر أحد العملاء على الحصول على خدمات خارج الاتفاقية المبرمة بيننا... في البداية كنت أرفض، ثم تحت ضغط العلاقة والمجاملة بدأت أسايره، حتى وجدت نفسي في مأزق!! حجم تلك الخدمات الجانبية كاد أن يساوي قيمة الخدمة الأساسية نفسها، لم أستطع أن أطالب بأتعاب إضافية، ولم أجرؤ أن أقطع العلاقة، فبقيت متورطا في شعور من الخسارة. يومها جلست مع نفسي أراجع: لماذا يطلب الناس ما لا يحتاجونه؟ ولماذا يتلذذون بأخذ شيء إضافي وكأنهم انتصروا في صفقة وهمية؟

حين أمعنت التفكير، وجدت أن المسألة ليست حبا في الصلصات ولا في الخدمات، بل هي لذة الانتصار. الإنسان يريد أن يربح دائما، حتى لو لم يكن هناك مجال للربح الحقيقي. التاجر حين يضع هامش ربحه في السعر يكون قد حسب حساباته بدقة، لكن الزبون يشعر أنه يجب أن يحقق مكسبا ما، ولو كان على شكل طلبات جانبية لا قيمة لها. إنها فلسفة الانتصار الوهمي: أن تظن أنك ربحت بينما في الحقيقة دفعت الثمن بطريقة أخرى.

ولست أتكلم هنا عن المطاعم والعملاء فحسب، بل عن سلوك إنساني نراه في أبسط المواقف. خذ مثلا قصة أحد أصدقائي الذي يهوى التسوق من المحلات الكبيرة. كان يفرح حين يحصل على عرض 'اشترِ واحدة وخذ الثانية مجانا'. لم يكن يحتاج الثانية أصلا، لكنه يبتسم وكأنه انتصر على البائع. كنت أراه يكدس الأكياس في بيته حتى تضيق الغرف، ثم بعد أشهر يرمي نصفها. ما الذي كسبه فعلا؟ لا شيء سوى شعور لحظي بالانتصار، بينما الحقيقة أنه أنفق أكثر مما يحتاج، وخسر مساحة وراحة. المشهد يتكرر في كل مكان: أناس يصرون على إضافة وجبات لا يأكلونها، أو اشتراك في خدمات لا يستخدمونها، أو شراء أجهزة حديثة فقط لأن فيها 'ميزة إضافية' لا علاقة لهم بها.

إن هذه العقلية - عقلية 'كثر شطة' - لها آثار تتجاوز الفرد إلى المجتمع كله. حين يتعود الناس على طلب الإضافات المجانية أو الزائدة، فإن التجار لا يتركون الأمر للصدفة. كل كيس كاتشب محسوب، وكل خدمة جانبية لها كلفة، وكل عرض تسويقي يخفي هامش ربح مضاعفا. ومع تكرار هذه السلوكيات، يرفع التجار الأسعار لتعويض ما يقدم من إضافات، فيتحول الوهم الفردي بالربح إلى خسارة جماعية يتحملها الجميع. لهذا نرى مطاعم ومقاهي تبدأ بأسعار معقولة ثم تفاجئنا بارتفاع سريع لا يفسره التضخم وحده، بل يفسره سلوك المستهلكين أنفسهم.

والأعجب أن هذه الفلسفة تسري حتى في العلاقات الاجتماعية والشخصية. هناك من يصر أن يأخذ منك وقتا أكثر مما اتفق عليه، أو أن يحملك كلاما أو التزامات لم تكن في حسابك، لمجرد أن يشعر أنه 'أخذ أكثر'. كم من صديق يستمتع بأن يتأخر عليك ساعة في موعده، فقط ليشعر أنه ليس خاضعا لضبط وقتك! وكم من موظف يطلب امتيازات لا يحتاجها في عمله، فقط ليحس أنه حقق مكسبا على الإدارة. هي ذاتها عقلية المقصف: 'كثر شطة' حتى لو لم تأكلها.

الفلاسفة القدماء تحدثوا عن 'الوهم باللذة' و'الوهم بالربح'. أرسطو مثلا أشار إلى أن الإنسان كثيرا ما يخلط بين الخير الحقيقي والخير الظاهر. والاقتصاديون المحدثون يصفون هذا في نظريات 'الاقتصاد السلوكي'، حيث يبين العلماء أن الإنسان يتخذ قرارات مالية لا بعقلانية بل بشعور آني بالانتصار. لكن كل هذه النظريات يمكن أن نلخصها في ذلك الموقف البسيط: طفل لا يحب الطعام الحار، لكنه يصرخ عند المقصف 'كثر شطة'.

إن المشكلة ليست في الشطة ولا في الصلصة ولا في الخدمات الجانبية، بل فينا نحن. في شعورنا الخفي أننا يجب أن نربح دائما، وأننا إن لم نأخذ شيئا إضافيا فقد خسرنا. لكن الحقيقة أن الحياة لا تقاس بالإضافات الصغيرة بل بالقيمة الجوهرية. الطعام يشبعك بقدر حاجتك لا بقدر كمية الصلصة الملقاة حوله. والعمل يعطيك قيمته بقدر ما اتفقت عليه، لا بقدر ما تضيفه من خدمات لا ثمن لها.

وهنا تبرز فلسفة أعمق: لذة الانتصار التافه قد تكون أخطر من الهزيمة. لأن الهزيمة تعلمك، أما الانتصار الوهمي فيغريك بالاستمرار حتى تسقط في خسائر لا تدركها إلا متأخرا. كم من مشروع خسر بسبب طلبات جانبية استهلكت طاقته؟ وكم من علاقة انهارت بسبب رغبة أحدهم في أن يشعر أنه أخذ أكثر مما أعطى؟ إنها فلسفة 'كثر شطة' التي تبدو بريئة لكنها تهوي بالكثير.

فهل نتوقف قليلا لنسأل أنفسنا: هل ما نطلبه حقا حاجة أم مجرد لذة انتصار زائف؟ وهل نريد أن نبني حياتنا على إضافات صغيرة نتفاخر بها، أم على قيم حقيقية تشبعنا وتغنينا؟ ربما لو فعلنا ذلك، سنكتشف أن القليل يكفينا، وأن الانتصار الحقيقي هو أن نعرف ما نريد ونكتفي به، لا أن نصر على 'الشطة' التي لا نأكلها.