الله بالخير...
الثلاثاء / 15 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 23:15 - الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 23:15
تعد فجوة المهارات اليوم العائق الأكبر أمام نمو الاقتصادات، فهي تكبح الإنتاجية وتغلق أبواب الاختراق إلى أسواق جديدة. ويكفي أن نعلم أن 59% من القوى العاملة عالميا تحتاج لإعادة تأهيل خلال العقد المقبل، وفق تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي. هذا الرقم لا يخص العالم فقط، بل يمسنا نحن أيضا في السعودية، حيث الهوة بين التعليم وسوق العمل قائمة وملحة.
ورغم التقدم الملحوظ الذي حققته الجامعات السعودية في التصنيفات العالمية خلال العقد الأخير، حيث دخلت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن قائمة أفضل 100 جامعة عالميا في تصنيفات QS العالمية، وتقدمت جامعات الملك سعود وعبدالعزيز وطيبة و»كاوست» في الترتيبات الدولية، مما يعكس جهود المملكة في تعزيز مكانة التعليم، إلا أن هذا التحسن لا يزال دون سقف الجودة العالمي، لأن مسار التعليم العالي منذ بداياته ركز على التوسع الكمي أكثر من النوعي، لتبقى التصنيفات بريقا شكليا لا يترجم بالضرورة إلى أثر اقتصادي أو اجتماعي ملموس.
لذا دعونا نناقش محورين أساسيين: أولهما الابتكار الجامعي من حيث الجودة لا الكم العددي، وثانيهما تأهيل الطلاب فعليا لبيئة العمل. والسؤال هنا: هل انعكس صعود التصنيفات على مستوى الإنتاج المعرفي في السعودية؟ فمع أن التصنيفات تعزز السمعة وتفتح أبواب الشراكات، إلا أن غياب الربط بين البحث والصناعة يضعف الجدوى. كما أن الابتكار الوطني ما زال دون الإمكانات، تعرقله البيروقراطية، ويعكسه ضعف الإنفاق على البحث والتطوير الذي لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي، وهو أقل بكثير من طموحات رؤية 2030، حتى مع التقدم اللافت للرياض إلى المرتبة 23 عالميا في مؤشر الشركات الناشئة.
يتضح الفارق عند المقارنة مع جامعات كستانفورد وتسينغوا وأكسفورد التي تقود الاقتصاد بتحويل الأبحاث إلى منتجات، فيما لحقت سنغافورة وكوريا بالركب بجامعات مرتبطة بالاقتصاد وقطاعات التوظيف والإنتاج. أما جامعاتنا، فرغم دخول 19 جامعة عربية ضمن أفضل 500 عالميا، بينها ثلاث سعودية، فإنها لم تتمكن بعد من اقتحام الصفوف الأولى. وفي تصنيف U.S. News 2026 - 2025 لأفضل الجامعات، تواصل أميركا هيمنتها بـ280 جامعة بينها 19 من أفضل 30 عالميا، تتصدرها هارفارد بسمعة بحثية وبراءات اختراع وشركات ناشئة ومكانة اقتصادية تعتمد عليها مراكز القرار. في المقابل، يبقى الحضور العربي هامشيا في المنافسة العالمية، رغم بروز أسماء مثل جامعة القاهرة كالأفضل إفريقيا.
وبعيدا عن بريق التصنيفات، يكشف الواقع الأكاديمي مشهدا أقرب إلى كوميديا سوداء تجسد أزمة التعليم؛ فما إن يبدأ العام الجامعي حتى تتكرر الأسئلة من الطلاب: هل هناك ملخصات؟ هل الاختبارات صعبة؟ لماذا لا تحتسب الدرجات على مشاريع جماعية؟ بل يصل الأمر إلى المطالبة بالدراسة عن بعد بدل الحضور. هي ذهنية ترى في الشهادة غاية لا وسيلة، وفي الجامعة محطة عبور بأقل مجهود. والأسوأ أن بعضهم يقف على أعتاب التخرج ضعيف المهارة، يفتقر إلى المبادرة والتفكير النقدي والقدرة على التطبيق، فيغدو خريجا لا يسمن ولا يغني من جوع. بلادنا اليوم تحتاج إلى طلاب مبادرين، صانعي قرار، واثقين بأنفسهم، قادرين على الإبداع والقيادة، يتسابقون إلى صناعة المستقبل.
لذا فإن جامعاتنا تقف أمام منعطف مصيري: إما أن تواصل نهجها المعتاد دون قيمة مضافة، أو أن تقدم على تغييرات بنيوية تعزز مكانتها عالميا. وبرأيي، لا ينبغي أن يبقى التعليم الجامعي مجرد خط إنتاج يلبي ما يطلبه سوق الوظائف، فهو متقلب يستهلك المهارات سريعا. والأجدى أن تتحول الجامعات إلى صانعة لمسارات جديدة، سواء في التخصصات الدراسية أو البحث التطبيقي، خيارات تسبق المستقبل وتفتح آفاقا غير مطروحة بعد، لتؤدي دورها الريادي في صياغة اتجاهات العمل والمعرفة بدلا من الارتهان لتقلبات ما يريده سوق العمل.
وإن أردنا تحويل الرؤى إلى واقع، فمع وجود 28 جامعة حكومية و65 أهلية تضم أكثر من مليون طالب، تصبح الحاجة ملحة لإصلاحات جوهرية تغلق الفجوة بين الواقع والمأمول. ويشمل ذلك تعزيز الحوكمة الجامعية لتسريع القرار ودعم الابتكار، وتطوير كفاءة الأساتذة، واعتماد برامج هجينة تربط العلوم بالتقنية والإنسانيات والبحث بالصناعة، مع إدماج المهارات الحياتية في صلب المقررات وربطها بشهادات micro-credentials تقاس بجودة المخرجات لا بساعات الدراسة.
نحن نخوض تحولا تعليميا جريئا يستدعي ضخ استثمارات أكبر في الابتكار والتقنيات المتقدمة، لتغدو الجامعات رافعة اقتصادية تصل البحث بالصناعة وريادة الأعمال. غير أن التحدي الأكبر أمام هذه الجامعات هو تجاوز هوس الأرقام والتصنيفات، والانتقال إلى صناعة كفاءات نوعية تليق برؤية الوطن، بعيدا عن المتردية والنطيحة وما سيتخلى عنه سوق العمل.
فيا جامعاتنا، الله بالخير.