الرأي

السيرة: وثيقة الزمان، ومرآة الإنسان

لبنى حجازي
بين الورق والنبض

ليست السيرة مجرد كلمات تسطر على الورق، بل هي نبض يستعاد، ونداء داخلي يحاول النجاة من براثن النسيان. هي ذاكرة لا تكتفي بأن تحكي ما كان، بل تتلون بالإحساس، وتتماوج كحلم قديم يروى على مهل، بصوت يخرج من الأعماق لا من الحنجرة.

السيرة ليست ما وقع فحسب، بل ما ترك أثرا، ما بقي يئن في القلب، أو يلمع في أفق الذكرى، أو يشق الروح كلما مر خيال. هي الحكاية التي يكتبها الإنسان عن ذاته، لا كما كانت، بل كما تذكرها، وكما شاء أن يرويها، بما فيه من مبالغة، وتجميل، وصمت مسكوت عنه.

السيرة تأريخ خفي

لا يحتاج التاريخ إلى صرح شاهق أو معركة فاصلة، بل إلى نبض من عاشوا في الظل، وتكلموا بعيونهم. السيرة تنقذ ما كان مهمشا، وتجعل للتاريخ نبضا دافئا، ليس في الأرقام، بل في الرجفة والحلم المنكسر.

نجد فيها صوت الأرملة التي لم ترسل رسائلها، وحلم الفتى الذي أضاعته حرب، وتفاصيل الطفولة المكسورة في زوايا المدارس، وكراسات النسيان. فالتاريخ الحقيقي ما كتبته الدموع، لا ما خطه الجنود.

السيرة مرآة للنفس

إذا جلس الإنسان أمام نفسه وهو يكتب، فهو ينقب في أرض مزروعة بالأشواك والذكريات. يشاهد ماضيه كما كان، وكما لم يرد أن يكون. يعيد بناءه بالكلمات: يعترف، يخفي، يتجمل، يبالغ، وربما يتبرأ من بعضه.

السيرة ليست صرحا للتباهي، بل هي مجال للتصالح، وفرصة لخلق ذات أخرى، لا كما كانت، بل كما تمناها.

لماذا نكتب ذواتنا؟

نكتب لأن ما لم يقل، يختنق فينا. نكتب لنبقي شيئا منا حيا، ولنضع خارطة لمن يجيء بعدنا. نكتب لنروض وجعا قديما، ولنقبل ذكرى لم نقدر على عشقها حين وجدت.

وحين نقرأ سيرة غيرنا، نفتش سرا عن نسخة منا فيه، نسأل السطور: هل عانى مثلي؟ هل نجا مثلي؟ هل أحب كما أحببت؟ هل تفحم بالندم كما احترقت؟

حين تكتب الأرواح

السيرة ليست نصا، بل نفس تكتب، وحياة تقاوم الانمحاء. في كل سيرة صوت خفي يقول 'كنت هنا'، 'عشت، وتألمت، وأحببت، وكتبت'.

وما دام الإنسان يخاف الزوال، ويحنو على ما فات، فسيظل يكتب، لأن الحبر، في النهاية، هو الطريقة الأخيرة لنمسك بأرواحنا... قبل أن يفلتها الزمن.

ومضة: السيرة ومضة روح في ظلمة الزمان، تضيء ما عجز التاريخ عن لمسه.