الرأي

الشرق الأوسط بين استمرارية القوة وتحولات الصراع: قراءة في نتائج حرب غزة

تركي القبلان


شهدت الحرب الأخيرة في غزة جدلا واسعا حول طبيعة نتائجها ودلالاتها الاستراتيجية، تراوح بين من يصفها بالانتصار الإسرائيلي الحاسم ومن يعتبرها فشلا عسكريا وسياسيا لتل أبيب. وبين هذين الطرفين، تغيب القراءة التحليلية التي تتجاوز الانحياز إلى فهم معمق لطبيعة الصراع وموازين القوى وحدود القدرات العسكرية في تحقيق الأهداف السياسية. هذا المقال يحاول تقديم قراءة نقدية تستند إلى معطيات قابلة للقياس وتأخذ بعين الاعتبار التعقيدات الإقليمية والدولية التي تحكم المشهد، مع التركيز بشكل خاص على دور اليمين المتطرف الإسرائيلي في تشكيل أزمة القرار الاستراتيجي التي تعيشها إسرائيل اليوم.

الحرب في غزة ليست صراعا تقليديا بين دولتين تمتلكان بنى عسكرية متكافئة بل هي نموذج للصراع غير المتماثل الذي يتطلب معايير تقييم مختلفة. من جهة تمتلك إسرائيل جيشا نظاميا بتسليح متقدم وتقنية عالية ومنظومات دفاع جوي ومخابراتية متطورة، ودعما لوجستيا واستخباراتيا من قوة كبرى متمثلة بأمريكا، واقتصادا مدعوما قادرا على تحمل تكاليف حرب طويلة نسبيا. من جهة أخرى حماس فصيل مسلح يعمل ضمن قطاع محاصر لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا، لا يمتلك قوات جوية أو بحرية أو دفاعات جوية فعالة، يعتمد على تكتيكات حرب العصابات والأنفاق ومحدود الموارد المالية واللوجستية. هذا التباين الهائل يجعل من الإشكال تطبيق معايير «النصر» أو «الهزيمة» التقليدية، والسؤال الأدق هو: ما هي الأهداف المعلنة لكل طرف، وإلى أي مدى تحققت؟

وفق التصريحات الرسمية الإسرائيلية شملت الأهداف تدمير البنية العسكرية لحماس والقضاء على قدرتها الصاروخية وتحرير الرهائن الإسرائيليين وإعادة الردع الاستراتيجي. من جهة حماس تمحورت الأهداف حول الصمود أمام الحملة العسكرية وإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة دوليا، وتحقيق مكاسب في أي تسوية سياسية، والحفاظ على البنية التنظيمية للحركة.

على المستوى العسكري حققت إسرائيل تدمير جزء كبير من البنية التحتية العسكرية لحماس بتقديرات تتراوح بين 60 - 70% من الأنفاق الرئيسية، وتصفية عدد من القيادات الميدانية والعسكرية وبعض القيادات السياسية، واحتلال مناطق استراتيجية في القطاع وتقليص القدرة الصاروخية بشكل ملموس. لكنها لم تحقق القضاء الكامل على حماس كتنظيم سياسي عسكري، ولا تحرير كل الرهائن بالقوة العسكرية، ولا منع إعادة بناء القدرات، كما أثبتت تجربة الحروب السابقة، ولا تحقيق «نصر حاسم» بالمعنى الذي يمنع تكرار المواجهة.

في المقابل حافظت حماس على الوجود التنظيمي رغم الحرب، حيث بقيت طرفا في المفاوضات، واحتفظت بأوراق ضغط مكنتها من الحصول على تنازلات بعد ماراثون الضغوطات العسكرية والسياسية التي أعلنتها الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية معا. لكنها لم تمنع الخسائر البشرية والمادية الفادحة في القطاع ولا حصلت على ضمانات دولية صلبة لإعادة الإعمار في ظل وجودها. انتهت الحرب ليس بانتصار عسكري حاسم لأي طرف بل بتسوية تفاوضية شارك فيها وسطاء متعددو الأطراف، وتضمنت وقف إطلاق نار مقابل الإفراج عن الأسرى وعدم حسم مسألة مستقبل القوى البشرية لحماس في القطاع كقوى بشرية غير مسلحة. هذا الواقع يشير إلى أن القوة العسكرية وحدها لم تكن كافية لفرض الحل الإسرائيلي الكامل، وأن العوامل السياسية والإقليمية والدولية لعبت دورا محوريا في وقف الحرب.

من غير الدقيق الحديث عن «تآكل» شامل للقوة الإسرائيلية فالمؤشرات تثبت استمرارها كقوة عسكرية لا يستهان بها بميزانية دفاع تتجاوز 24 مليار دولار وتقنيات عسكرية متقدمة من القبة الحديدية»، وإن واجهت اختبارا صعبا في مواجهتها مع إيران شكلت نسبة إخفاق في بعض الحالات تصل إلى نسبة 40%» إلى قوة جوية متقدمة وقدرات سيبرانية وشبكة استخباراتية واسعة.

لكن هذا التفوق لا يعني غياب التحديات، فالحروب الأخيرة منذ عام 2008 وحتى اليوم أثبتت أن التفوق العسكري التقليدي لا يترجم بالضرورة إلى القدرة على «حسم» نهائي للصراع ولا إلى منع تجدد المواجهات ولا إلى تحقيق الأهداف السياسية بالكامل. كل حرب تحمل تكاليف بشرية من خسائر في صفوف الجيش، واقتصادية من تكلفة الحرب والتعطيل الاقتصادي، ودبلوماسية من ضغوط دولية متزايدة، وداخلية من انقسامات سياسية واجتماعية. البيئة الإقليمية أصبحت أكثر تعقيدا أمام مسألة محاولة إسرائيل فرض تفوقها، وذلك في ظل صعود قوى لم تعد معها إسرائيل تصنف نفسها القوة التي لا تقهر، وفي ميزان المصالح تمتلك هذه القوى أوراق قوة متعددة تجعل من أمريكا تعيد حساب مصالحها وفق اعتبارات تقلل من كلفة انحيازها المطلق لإسرائيل.

لكن الأهم من كل ذلك والذي يمثل المفتاح الحقيقي لفهم المشهد الحالي هو التحول البنيوي في البنية السياسية الإسرائيلية نفسها. شهدت إسرائيل في السنوات الأخيرة صعود اليمين المتطرف إلى مراكز القرار، حيث أصبح بتسلئيل سموتريتش وزيرا للمالية وهو يتبنى خطابا استيطانيا متشددا، ويدعو علنا لضم الضفة الغربية، وإيتمار بن غفير وزيرا للأمن القومي وله تاريخ في الحركات المتطرفة ويدعو لسياسات قمعية ضد الفلسطينيين. هذان الوزيران ليسا مجرد أعضاء في الحكومة بل شريكان ضروريان لبقاء ائتلاف نتنياهو، مما يمنحهما قوة «فيتو» فعلية على القرارات الاستراتيجية.

الخطاب العنصري والديني المتصاعد بلغ مستويات غير مسبوقة مع تصريحات علنية من مسؤولين إسرائيليين تصف الفلسطينيين «بالحيوانات البشرية»، ودعوات صريحة لتهجير سكان غزة واستخدام لغة دينية توراتية لتبرير الحرب، هذا الخطاب غير مسبوق في تطرفه حتى بمعايير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني التاريخية. وقد أدى هذا التطرف مع سلوك إجرامي يرتقي لجرائم حرب إلى تصادم متزايد مع النظام الدولي تمثل في إصدار مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت باتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما يضع إسرائيل في موقف قانوني دولي حرج لم تشهده من قبل.

حتى مع الإدارة الأمريكية ورغم الدعم الاستراتيجي المستمر ظهرت توترات ملحوظة من ضغوط أمريكية علنية لوقف إطلاق النار وهي غير معتادة، وتسريبات عن خلافات حادة بين الرئيس السابق بايدن ونتنياهو، وتأخير شحنات أسلحة معينة كرسالة ضغط وانتقادات علنية من مسؤولين أمريكيين لسلوك الحرب، العزلة الدبلوماسية تزايدت مع تصويت مجلس الأمن على قرارات وقف إطلاق النار، حيث امتنعت أمريكا عن «الفيتو» في بعض الحالات، وتحول ملحوظ في الرأي العام الغربي خاصة بين الأجيال الشابة والأوساط الأكاديمية ومظاهرات ضخمة في العواصم الغربية ضد سياسات إسرائيل.

هنا تكمن المفارقة الجوهرية: إسرائيل عسكريا في أقوى حالاتها تقنيا، لكنها سياسيا في أضعف حالاتها دبلوماسيا منذ عقود. مؤشرات الضعف السياسي تتجلى في الخضوع للضغوط الخارجية، حيث قبلت بخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار رغم عدم تحقيق الأهداف المعلنة من القضاء الكامل على حماس واستعادة الأسرى بالقوة، والتراجع عن خطط «إعادة احتلال» غزة بالكامل تحت ضغط أمريكي. الانقسام الداخلي بات واضحا مع احتجاجات ضخمة داخل إسرائيل، وانقسام بين المؤسسة الأمنية من جيش ومخابرات والقيادة السياسية، وتسريبات من مسؤولين أمنيين تنتقد قرارات الحكومة، وأزمة ثقة بين الشعب والقيادة خاصة بعد فشل السابع من أكتوبر وما آلت إليه الأمور فيما بعد.

اليمين المتطرف يدفع نحو استراتيجية «النصر الكامل» غير الواقعية عسكريا ورفض أي حل سياسي يتضمن تنازلات، ومواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي. لكن الواقع الميداني والضغوط الدولية تفرض حدودا للعمل العسكري من حيث التكلفة البشرية والاقتصادية، وضرورة التسويات لاستعادة الرهائن والحاجة للشرعية الدولية للحفاظ على العلاقات والدعم. النتيجة هي قوة عسكرية بلا استراتيجية سياسية واضحة، حيث تمتلك إسرائيل قوة عسكرية هائلة ودعما أمريكيا استراتيجيا وتفوقا تكنولوجيا، لكنها تفتقد إلى رؤية استراتيجية للخروج من الصراع وقيادة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات تاريخية وإجماع داخلي حول طبيعة الحل وشرعية دولية متزايدة رافضة لسياساتها.

المفارقة الخطيرة تكمن في أن سموتريتش وبن غفير يملكان قوة إسقاط الحكومة بالانسحاب من الائتلاف، لكنهما لا يتحملان المسؤولية الاستراتيجية الكاملة، فليس يعمل كل منهما بمنصب رئيس وزراء أو وزير دفاع فيدفعان نحو سياسات متطرفة دون تحمل تبعاتها الكاملة، بينما نتنياهو محاصر بين ضرورة إرضائهما للبقاء في السلطة وبين الضغوط الدولية. هذه الديناميكية حيث يدفع اليمين المتطرف نحو سياسات متشددة تؤدي إلى تصادم دولي، فيستجيب نتنياهو المحاصر للضغوط الأمريكية والدولية مرغما، ما يؤدي إلى تصادم داخلي وتهديد بإسقاط الحكومة، هذا يفسر التردد في القرارات الاستراتيجية والتناقض بين التصريحات والأفعال وعدم القدرة على تحقيق أهداف واضحة.

صعود اليمين المتطرف يؤكد أزمة في منظومة القرار الإسرائيلي، حيث القيادة الحالية غير قادرة على التفكير الاستراتيجي طويل المدى والانشغال بالبقاء السياسي يطغى على المصلحة الوطنية والمؤسسة الأمنية محبطة من تسييس القرارات. كما يكشف عن تآكل «الإجماع الإسرائيلي»، حيث لم يعد هناك إجماع حول طبيعة الحل مع الفلسطينيين أو حدود استخدام القوة أو العلاقة مع المجتمع الدولي أو مستقبل الاحتلال والاستيطان.

الخضوع للضغوط الأمريكية يؤكد من جهته استمرار الاعتماد الاستراتيجي، فرغم كل القوة العسكرية فإن إسرائيل لا تستطيع تحمل قطيعة مع واشنطن، والدعم الأمريكي ليس فقط عسكريا بل دبلوماسي عبر الفيتو في مجلس الأمن، واقتصادي عبر التجارة والتكنولوجيا والاستثمارات، وسياسي عبر تعويضها الشرعية الدولية التي تفتقدها إسرائيل. هذا يكشف حدود القوة الذاتية، فإسرائيل قوية عسكريا لكنها ليست قوة عظمى مستقلة تحتاج للغطاء الدولي الأمريكي لممارسة قوتها وعندما يتوقف هذا الغطاء أو يضعف تضطر للتراجع، ولهذا شواهد في محطات عدة، فمثلا عام 1975 عندما رفضت إسرائيل خطة فض الاشتباك في سينا مارس الرئيس الأمريكي حينها فورد ووزير الخارجية كيسنجر ضغطا وصل إلى التهديد بإجراء مراجعة للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية عندها أذعنت وقبلت.

على المستوى الإقليمي هناك أمثلة على استقلال القرار الاستراتيجي، مما أصبح له انعكاس على طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: السعودية رفضت التطبيع مع إسرائيل دون حل للقضية الفلسطينية على أساس إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية في موقف معلن وثابت، بل وقادت مع فرنسا مؤتمر حل الدولتين مما أسفر عن بلوغ الاعتراف الدولي بدولة فلسطين إلى 159 دولة. هذا يعطينا ملمحا نحو تعقيد مفهوم القوة، فلم تعد تقاس فقط بعدد الدبابات أو الطائرات، بل بالقدرة على تحقيق الأهداف السياسية والحفاظ على الشرعية الدولية والإقليمية، والقدرة على إدارة علاقات معقدة ومتشابكة.

الحروب الأخيرة أثبتت محدودية الحلول العسكرية، فالعمل العسكري يمكنه تدمير البنى التحتية لكن ليس بالضرورة القضاء على الفكرة أو الحركة، والحلول الدائمة تتطلب تسويات سياسية، والردع الاستراتيجي يتآكل بمرور الوقت ويحتاج إلى تجديد دوري، تعدد اللاعبين بات واقعا فلم يعد قياس النتائج ثنائيا بين إسرائيل وفلسطين، بل يشمل أطرافا إقليمية ودولية تستطيع أن تكبح جماح إسرائيل وفق تقييم كلفة المصالح بين أمريكا وإسرائيل مقارنة مع كلفتها أمريكيا مع الدول الفاعلة الأخرى في المنطقة وفي مقدمتها السعودية ضمن ميزان الخسارة والربح.

الخطاب السائد عربيا وإسرائيليا وغربيا يميل إلى التبسيط المفرط عبر ثنائيات «انتصار كامل» أو «هزيمة ساحقة»، والتسييس عبر قراءة النتائج وفق الموقف السياسي المسبق والانتقائية عبر اختيار البيانات التي تؤكد الموقف وتجاهل ما عداها. الواقع أكثر تعقيدا، فإسرائيل حققت أهدافا عسكرية «وإن كانت منقوصة» لكن دفعت ثمنا سياسيا ودبلوماسيا، وحماس خسرت الكثير لكنها لم تهزم بالمعنى الكامل، والشعب الفلسطيني دفع الثمن الأفدح دون تحقيق مكاسب ملموسة، والمنطقة أصبحت أكثر تعقيدا وأقل استقرارا.

الخلاصة هي أن إسرائيل اليوم تمتلك قوة عسكرية هائلة لكنها تدار بقيادة سياسية ضعيفة ومنقسمة، محاصرة بين يمين متطرف يدفع نحو المواجهة الشاملة وضغوط دولية تفرض حدودا واقعية لاستخدام هذه القوة. النتيجة هي عدم القدرة على تحقيق أهداف استراتيجية واضحة رغم التفوق العسكري الساحق. هذا التشخيص يفسر لماذا لم تحقق إسرائيل نصرا حاسما رغم قوتها، ولماذا اضطرت للخضوع للضغوط رغم تشدد خطابها، ولماذا المستقبل غامض رغم التفوق العسكري. المغزى الاستراتيجي واضح: القوة بلا استراتيجية تساوي عجزا عن تحقيق الأهداف.

إسرائيل اليوم ليست في أضعف حالاتها عسكريا، لكنها ربما في أضعف حالاتها استراتيجيا منذ تأسيسها. هذا الضعف الاستراتيجي الذي يعكسه صعود اليمين المتطرف وأزمة القيادة هو ما يجعلها عاجزة عن توظيف قوتها لتحقيق حسم حقيقي أو سلام​​​​​​.