الرأي

عندما أموت؟

بسمة السيوفي
أبعدتُ الأشباح عن رأسي، وتسارعت نبضات قلبي كطائر مذعور في قفص ضلوعي. تمتمت: {وءامنهم من خوف} دون توقف، بينما تنقل طبيب التخدير بين ذراعي اليمنى واليسرى حتى وجد عرقا مناسبا. ثم اختلط المخدر بروحي، وسرت البرودة في أوصالي، وابتعدت الأصوات من حولي حتى غدت كالهمس في نفق بعيد. عندها استسلمت، أغمضت عيني، واستودعت الله كل شيء.شعرت للحظة أن الغياب التام عن هذا العالم احتمالية مرجحة داخل غرف العمليات، وبدأت أتساءل: يا ترى كيف يبدو شكل الغياب حين يحدث؟ أقصد سؤال الأثر والمعنى وليس مجرد الفقد البيولوجي.فلنفترض - لا قدر الله - أنني غادرت العالم، السيناريو المتوقع هو كالتالي: سيتفاجأ من حولي؛ وأول ما سيكون أني سأصبح إشعارا في مجموعات الواتساب كخبر «انتقلت إلى رحمة الله فلانة بنت فلان، أم فلان وأخت فلان... إنا لله وإنا إليه راجعون». سيرد البعض «رحمها الله» بتغريدة قصيرة، وسيبكي المقربون، ويدعو لي المحبون، ثم تبدأ خطوات المواساة لمن بقي بعدي.سيتوافد الناس إلى بيتي دون أن أكون فيه؛ فيحضر بعضهم بحزن وألم، كأن الفقد أصابهم شخصيا، بينما يؤدي آخرون واجب العزاء شكليا طلبا للحسنات.وسيجلس بعضهم يتأمل تفاصيل الأسقف ولوحات الجدران ليصدر أحكاما على ذوقي. وبعد انقضاء المراسم، سيتصدقون عني، وتوزع ثيابي، وتغلق حساباتي، وتهدى أو تباع أشيائي، ثم يذوب الخبر في ماء الأيام.وبعد سنين سيسأل طفل صغير من العائلة الممتدة «من هذه التي في الصورة؟» فيجيبه أحدهم «هذه أم جدك... نسيت اسمها، لكنها كانت طيبة». وربما يضيف آخر «كانت تكتب»، أو شيئا من هذا القبيل. ما سيحدث أن حياتي كلها ستختزل في صفة عامة «كانت امرأة طيبة».الرحيل عن الحياة أحد أسرار الوجود الكبرى؛ فالإنسان، مدفوعا بخوفه من المجهول، حاول أن يفهم الموت ويقربه إلى طبيعته البشرية. وقد تجسد هذا الخوف في ثقافات متعددة؛ من حفظ الفراعنة للأجساد، إلى سعي البوذيين للتسامي فوق الرغبات. وكما تموت النجوم، وستفنى شمسنا بعد مليارات السنين، فإن الوجود بأسره يذكرنا دوما بأهمية إدراك معنى الغياب والتغييب.المشهد أكبر من إدراك الحواس؛ فمعظم البشر تمحى آثارهم بعد جيلين أو ثلاثة، أي خلال 50 إلى 70 عاما، حتى من ذاكرة أقرب المقربين، ثلاثة أجيال تكفي ليتلاشى التاريخ الشفهي للأسرة ما لم يتعمد أحد حفظه. وحتى في العصر الرقمي يبقى النسيان حاضرا؛ إذ قدرت دراسة منشورة لجامعة أكسفورد (2019) أن يصبح «فيسبوك» بحلول 2070 أكبر مقبرة رقمية، حين تتجاوز حسابات الأموات حسابات الأحياء.منذ ملحمة جلجامش والإنسان يطارد الخلود؛ من أساطير ينبوع الشباب إلى إكسير الحياة. رفض الفيلسوف اليوناني إبيقور الخوف من الموت وعده مجرد انعدام للإحساس، فيما برزت في الحداثة حركة الأنسنة الانتقالية Transhumanism ساعية لتأخير الشيخوخة والتغلب عليها، ورأى المؤرخ يوفال هراري في كتابه «الإنسان الإله» (2016) أن التطور البيوتكنولوجي قد يطيل العمر. لكن فلاسفة كفلاديمير ينكيليفيتش حذروا من أن الخلود قد يقود إلى ضجر أبدي. وعلى المستوى الثقافي، رسخ الغرب صورة الموت كأمر «ممنوع»، وأن الحديث عنه عيب ومخجل. ورغم كل هذا الجدل، يأتي القرآن ليضع الحقيقة في جملة واحدة: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾.خلاصة التجربة الإنسانية، منذ أقدم العصور، تنتهي عند حقيقة واحدة: أن كل ما نقوم به يؤول إلى النهاية. فإذا سلمنا بهذا المصير، يبقى السؤال: هل نكتفي بالانتظار أم نصنع حياة أفضل؟ والجواب فيما تعنيه الحياة لنا؛ فكل شيء قد يمحى من الذاكرة، غير أن الأثر يبقى، والفعل وحده يداوي الرحيل. خطوات بسيطة ككتابة اليوميات أو دعم مشاريع تخدم الآخرين تمنح للحياة امتدادها، فالأعمال لا تضيع: ﴿إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم﴾. وتلك الآثار هي ما يتركه الإنسان من أفعال، خيرا كانت أم شرا، يجري له أجرها أو وزرها بعد الفناء. وإلى أن يحين موعد الارتحال، سنحب بلا تشبث، ونترك أثرا طيبا، وندعو لمن ربانا أو علمنا أو أحسن إلينا، وندعم الآخرين باسم الراحلين، ثم ننام وقد أعددنا الوصية. راجين ما لا يخطر على قلب بشر؛ وحينها سنجد ما قدمناه محفوظا في سجل الغيب والعدل الإلهي.التعبير عن الذات مخيف، ويصعب مشاركته مع الآخرين، ومع ذلك أبوح لكم به. في طفولتي، كان خوفي الأكبر أن أفقد أمي وأبي، كنت أريد المغادرة قبلهما، حتى حدث ما كنت أخشاه، فرحلا عن الدنيا بينهما عام واحد، وكنت الوحيدة من بين إخوتي الشاهدة على هذا الغياب. ومن تلك الصدمة المبكرة أدركت أن الفقد هو ما يعلمنا قيمة الحضور.فماذا سنفعل ونحن حاضرون؟smileofswords@