الرأي

أبناء القرميد في بيزنطة

لبنى حجازي
لم تكن بيزنطة - تلك المدينة المتلألئة على ضفاف البوسفور - مجرد قلوع شاهقة وكنائس مطعمة بالفسيفساء، بل كانت قبل كل شيء مدينة القرميد. كان قرميدها الأحمر يعلو أسطح البيوت، يحرس سكانها من المطر والثلج، ويشكل لوحة موحدة للمدينة التي جمعت الشرق بالغرب. ومن بين تلك الأسقف المتراصة، ولد جيل من البشر سماه التاريخ مجازا أبناء القرميد: أبناء البيوت العادية، أبناء الأسواق، أبناء الميناء والورشات.

الحياة خلف الأسوار

هؤلاء لم يجلسوا على عرش مذهب، ولم يتركوا على الجدران أيقونات مطعمة بالذهب، لكنهم كانوا الروح الصامتة للإمبراطورية. فبينما انشغل الأباطرة بصراعات البلاط، والجنرالات بحروب الشرق والغرب، كان أبناء القرميد يبنون الجسور، ويرممون الكنائس، ويحملون السفن بالبضائع القادمة من مصر وسوريا، ويغذون الأسواق بالحبوب والخمر والزيت. وفي أحياء القسطنطينية الخلفية، كانوا ينسجون القماش، ويصهرون المعادن، ويصنعون الفخار الذي يملأ بيوت الناس.

التدين الشعبي

كان الدين عند أبناء القرميد مسيحيا أرثوذكسيا في الغالب، لكنه لم يكن محصورا في اللاهوت الجدلي ولا في المجامع العقائدية التي شغلت أباطرة وبطاركة. لقد كان إيمانهم بسيطا وعاطفيا: يزورون الكنائس في الأعياد الكبرى، ويقدمون النذور للأيقونات، ويؤمنون بقدرة القديسين على الشفاء والحماية. لم يدخلوا في جدل 'طبيعة المسيح' أو 'أيقونات وصور' كما فعل اللاهوتيون، لكنهم دفعوا ثمن تلك الانقسامات: فحين تحولت الخلافات الدينية إلى سياسة، كانت جيوش الإمبراطوريات تحشد، وكان أبناء القرميد يساقون للحروب أو يتحملون الحصار والجوع.

الفسيفساء البشرية

لقد كانوا متعددي الأصول: يونانيون، سلاف، أرمن، سوريون، وأقليات من مهاجرين قدموا مع التجارة من الشرق. هذه الفسيفساء البشرية صنعت شخصية بيزنطة الشعبية، حيث امتزجت الألسنة والعادات في الأزقة المزدحمة. كانوا يلتقون في الحمامات العامة، ويجتمعون حول الأفران الشعبية التي توزع الخبز المدعوم من الدولة، ويصطفون في الساحات لمشاهدة سباقات الخيل في ميدان الهيبودروم. وهناك، كان صوتهم يهز العرش: أحيانا بالهتاف للأباطرة، وأحيانا بالتمرد ضدهم كما في ثورة 'نيكا' الشهيرة.

ثقل الإمبراطورية وظلمها

لكن حياة أبناء القرميد لم تكن رخاء دائما. فقد فرضت الإمبراطورية ضرائب باهظة على الفلاحين والحرفيين لتمويل قصور الأباطرة وجيوشهم. وغالبا ما كان الجندي أو العامل يساق إلى الحرب البعيدة تاركا أسرته للفقر. وكانت الانقسامات الدينية - بين الأرثوذكس والموحدين، أو بين مؤيدي الأيقونات ومعارضيها – سببا في قمع الشعب، إذ تعرض كثيرون للملاحقة أو المصادرة لمجرد اختلافهم في المعتقد. وفي الحصار الطويل، كان أبناء القرميد أول من يجوع، بينما يظل البلاط متمتعا بمخازن القمح المؤمنة.

الصمود في وجه الأزمات

لقد عرف أبناء القرميد بالصبر والقدرة على الصمود. كانوا أول من يفتك بهم الطاعون، لكنهم أول من ينهض لإعادة البناء. بعد اجتياح الصليبيين للقسطنطينية سنة 1204، تشردوا وأحرقت بيوتهم، ومع ذلك ظلوا يحملون أحجار الإعمار ليعيدوا للمدينة حياتها.

الثقافة الشعبية والذاكرة الخفية

إذا كان الأباطرة قد خلدوا أسماءهم على النقود والكنائس، فإن أبناء القرميد تركوا أثرهم في الثقافة الشعبية: في الأناشيد البحرية، وفي الأساطير التي تناقلتها الجدات، وفي المواكب الشعبية التي رافقت الأعياد. لم تذكر أسماؤهم في سجلات البلاط، لكنهم ظلوا ذاكرة المدينة الحقيقية.

قد يكمن جمال بيزنطة الحقيقي لا في قباب آيا صوفيا وحدها، ولا في تيجان الأباطرة المذهبة، بل في تلك الحكايات المجهولة لأبناء القرميد: الذين لم يكتبوا أسماءهم على الرخام، لكنهم كتبوا بعرقهم وحياتهم اليومية تاريخ مدينة قاومت حتى اللحظة الأخيرة قبل أن تسقط في يد العثمانيين سنة 1453.

فإذا كان الأباطرة هم الواجهة الرسمية للتاريخ، فإن أبناء القرميد هم ذاكرة الظل؛ حيث يسكن الإنسان العادي الذي صنع حضارة بجهده، وعانى من ظلمها، لكنه ظل العمود الصامت الذي حفظها قرونا.

رحيق حكمة: الحضارات لا تشيد بالرخام وحده، بل بقلوب من سكنوا تحت القرميد.