الرأي

التجرد والنظرة البانورامية

فهد عبدالله


المتأمل في تاريخنا الإسلامي وما يزخر به من كنوز في جانب القيم والمبادئ التي سطرت في ثنايا المرويات والكتب، يجعلني حينا أرغب في الاستزادة المعرفية المتسارعة، وحينا آخر أتأرجح في رغبة التباطؤ وجعل هذه القيم والمبادئ تأخذ حقها في التدبر والتأمل، وكيف لأصحابها وصلوا لتلك المرتقيات والمدارج، رغبة في الإدراك أكثر من مجرد المعرفة، ولعلنا نخلط شيئا من سرعة وشيئا من تأمل، ونتشبه بمن دخل في مسارات المعرفة والإدراك.

من تلك المبادئ التي أعتقد أنها تأخذ زخما واسعا في صفات الناجحين والقياديين على مختلف الأزمنة والأماكن، مبدأ التجرد والانحياز للحقيقة أيا كان مصدرها، والنظرة البانورامية الشاملة للأمور قدر الاستطاعة والمعرفة، وفي ظني من تمكن استعمارا في نفسه هذان الجناحان، فقد أوتي شيئا من الحكمة، وخيرا كثيرا.

الأولى صفة أخلاقية داخلية، والأخرى صفة عقلية تقويمية، أو بعبارة أخرى، الانصياع للحقيقة والتجرد تهذيب للنوايا والمقاصد، والنظرة البانورامية تهذيب للسلوكيات العقلية وكل ما يتعلق بها من آراء وقرارات وحوارات. وأعتقد أن هذين المبدأين أو الصفتين متلازمتان إذا أردنا أن نصفهما كإطار للحكمة، إن صح التصنيف والتسمية، لا يمكن للنظرة الشاملة أن تكون ذات مخرجات مجودة دون وجود التجرد، لأنه في الأغلب ستكون الشمولية موجهة حسب الهوى والرغبات والمصالح، والتجرد دون النظرات الشمولية سيجعل أيضا من الآراء متضعضعة في اتجاهاتها لنقص سواء في المعلومات أو في الفهم.

وما زال الموقف الخالد للرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع الصحابة رضوان الله عليهم مثالا لذروة التجرد والنظرة الشاملة، كان بعض الصحابة مستعجلين في المواجهة، وأن شروط الصلح للوهلة المبدئية تميل للفئة الأخرى، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى جميع الجوانب من حيث: القوة العسكرية، مصلحة الدعوة، أثر الصلح على الدين والسياسة، ونتائجه المستقبلية، حيث اتخذ القرار بناء على الحقائق والنتائج، بعيدا عن الانطباعات المبدئية أو المصالح الشخصية.

والمرويات في هذا الجانب كثيرة جدا، ولا يمكن للمقال أن يتسع لذكر جزء منها، ولكن سأركز هنا على بعض السمات أو القوالب التي لاحظت شيئا منها، وقد تكون مؤثرة في استكمال هاتين الصفتين في البناء الشخصي لمن كتب الله له التوفيق، والتمس طريقا إلى ذلك:

- الانصات للفهم والتفهم، ولا أقصد هنا تحديدا أدبيات الاستماع بقدر ما أن الإنصات كناية عن فهم الآخر ودوافعه ونظرته للأمور، لأنها قد تنير لك شيئا لم يكن في سابق حسبان من تفكير أو تأمل. الإشكال هنا أنه عندما يتمكن منك رأي في داخلك أو توجه، كيف يمكن لك أن تقاومه من أجل أن تدع فرصة لمن يخالفك أن تنصت له إنصات الفهم والتفهم، وهنا التحدي.

- ليس بالضرورة أن يكون لك رأي في كل شيء، أو شيء في كل رأي، والزمن جزء من معادلة التحصيل والتعليم والتهذيب، بل إن التجرد والنظرة الشاملة من سماتهما الأبدية التراكم المعرفي والزمني.

- المرونة الفكرية، وهي أن تكون على استعداد تام لأن تغير موقفك أو رأيك تجاه أمر ما إذا اتضح صحة رأي آخر، وأعتقد أن هذه هي الأرضية التي تقف عليها صفتا التجرد والنظرة الشاملة.

- الاستشراف المستقبلي من خلال محاولة معرفة مآلات الأمور، والتفكير النقدي من ممارسات الموضوعية، وتحليل المعلومات، والوعي بالسياق والأوضاع الراهنة التي قد تقودك إلى تقديم مرجوح على راجح، أو خير الخيرين، أو أهون الشرين، والجودة هنا لكل هذه المهارات أو الأدوات ستعتمد بشكل أساسي على موارد وقوالب التجرد والنظرة الشاملة.

في فضاءات الحياة والفكر والإنسانية، قد يكون هناك ظلم نمارسه على أنفسنا عندما نتمسك بزاوية النظر الأحادية، وخاصة في هذا العصر الممتلئ بالعدد اللانهائي للأركان والزوايا، ومن جعل التجرد ورغبة الوصول للحقائق نصب عينيه، بفضل الله سيكون طريقه معبدا نحو وضوح الصورة كاملة، وسيكون مهرولا في ميدان الصحة والصوابية والفاعلية، وعندها يصبح الإنسان أقرب لمعنى الخلافة في الأرض، التي يمشي في مناكبها ويأكل فيها من الرزق. والله أعلم.