الرأي

شعراء أمراء.. نجوم في سماء الشعر العربي

فودة محمد علي عيشة
الشعر كان ولا يزال ديوان العرب الأول الذي يسجل مآثرهم، ويحكي انتصاراتهم وهزائمهم.. والشعر لدى العرب قام مقام الكثير من الفنون التي كانت سائدة لدى اليونان والرومان والفراعنة.. فلم يحفل العرب بفنون الدراما وفنون الصحافة والفنون التشكيلية، ونوع العرب في فنون الشعر والفخر فقسموه فنونًا، وكانت عزة القبيلة مرهونة بقدرة شاعرها... ومهارة خطيبها.ورب بيت شعر واحد كان كافيًا لرفع منزلة القبيلة.. وقد يكون سببًا في وضع القبيلة ويجعل أبناءها يتوارون خجلا... وكان الشاعر يمثل كل وسائل الإعلام والقوة الناعمة للقبيلة العربية يحكي مآثرها ومفاخرها، ويسجل انتصاراتها ومكارمها... حيث بلغت من عناية الشعر لدى العرب أن كتبوه وعلقوه على أكرم مكان اعتزوا به وعنوا وهو أستار الكعبة.وقد كان الشعر هو سمير الليالي، وحداء الرحلة، وصاحبهم في أسفارهم، والملازم لهم في حلهم وترحالهم.وبالشعر اتسعت لغة العرب، حتى فاقت كل لغات الأرض حتى زادت كلماتها عن اثني عشر مليون وثلاثمائة ألف كلمة بينما أقرب لغة إليها وهي اللغة الإنجليزية لم تزد عن ستمائة ألف كلمة، لذلك استحقت هذه اللغة التي عني بها أهلها وأقاموا لها أسواقًا، وقاموا عليها حفظا وتصنيفًا أن تكون لغة الرسالة الخاتمة ومعجزة الدنيا الخالدة «القرآن الكريم».وعاش الشعر في بلاط الملوك والأمراء حيث أغدقوا علي الشعراء فانتشرت فنون الشعر بين مدح وهجاء وغزل ووصف ورثاء.. وكان أكثر ما كتب من شعر كان شعرًا استهدف التكسب بالشعر واتخاذه مهنة لتحقيق التطلعات في علو الذكر والقدر.. كما أن الشعر شاهد على العصور العربية بتقلباتها السياسية والاجتماعية حيث في بلاط الخلفاء والأمراء دارت مساجلات شعرية بين كبار الشعراء حكوا من خلالها واقع العرب على خريطة العالم، وما جرير والأخطل والفرزدق شعراء العهد الأموي عنا ببعيد.ولم يكن إجادة الشعر والنبوغ فيه قاصرًا على طبقة من الطبقات، أو فئة من الفئات، حيث تبارى فيه كل ذي شعور صادق، وكلمات واعية، ولغة ثرية، فنجد أنه قد نبغ فيه عدد من الأمراء الذين أجادوا كتابة الشعر وبرعوا فيه، فاتخذت شاعريتهم منحى مختلفًا فلم يكن لرغبة، أو رهبة، أو لمطمع، أو مطمح، ولكن كان شعرًا ذاتيّا عبر فيه الملوك أو الأمراء عن أصالتهم وعزة النفس المتأصلة في نفوسهم ووجدانهم والميل القلبي المملوء بكل معاني النبل والفضيلة.. ولا أدري كيف لم يقف النقاد ورجالات الأدب - على حد علمي - مع هذا النمط فقاموا بعمل مقارنات شعرية...وقد بدأت ملامح هذه النزعة الشعرية الخاصة مبكرة في شعر امرئ القيس وهو ملك ومن أبناء الملوك، الذي ظهرت في شعره ملامح الفخر والشجاعة وبعضًا من المجون في مقتبل عمره وهو صاحب أشهر وأعرق معلقة.. ثم مرورًا بيزيد بن معاوية صاحب أشهر قصيدة غزلية في التراث العربي:نالت على يدها ما لم تنله يدي ** نقشًا على معصم أوهت به جلديثم مرورا بشعر أبي فراس الحمداني...أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ** أما للهوى نهي لديك ولا أمرولا شك تتجلي لدى أبي فراس ملامح هذا النمط الشعري الذي أُطلق عليه الشعر الأميري، الذي أزعم أن له تجليات خاصة، وخصائص متفردة. ظهرت من خلاله الجلالة والعزة والصدارة، فهو محب أرقه الحب، ولكنه يحبس شجونه ويخفي لوعته ولا يبدي انكساره.. وهو شديد الفخر بنفسه:ونحن قوم لا توسط بيننا ** لنا الصدر دون العالمين أو القبرتَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا ** وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُوفي العصر الحديث نبغ أمراء شعراء ونطق شعرهم معبرًا عن معان إنسانية كبرى، تمثلت في قلب محب ونفس حرة عزيزة، ولسان صادق، ووطنية مخلصة، فأجادوا في تقديم فز رفيع وقدوة طيبة في علو النفس عن السفاسف وطيش الغرام، وتنزهوا عن استعباد الهوى، فهم محبون ومغرمون أصحاب قلوب لكن ذلك لا ينسيهم علو الشأن ورفعة الحال، فيأتي الشعر دفقات شعورية تحكي بعضا من خلجات مشاعرهم، لكنها نسمات أصيل على موج عات.وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً ** تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُونجد هذه الملامح جلية في شعر عدد من الأمراء مثل شعر الأمير بدر بن عبد المحسن آل سعود عراب الأغنية الوطنية، والمعاني الحالمة واللغة الثرية، والشعور الزكي الأخاذ الذي شدا به عدد كبير من نجوم الأغنية في العالم العربي. والشاعر الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز آل سعود مؤسس مجلة الفيصل، والذي أضاف مواهب متعددة لمواهبه الشعرية حيث اهتم الأمير بالشأن الخطابي وكانت له خطب رنانة وكلمات في مناسبات عدة، وكان له فيها أسلوب مميز وخاص، وأصدر كلماته في كتاب أسماه: (كلمات) صدّره بقوله: «أجمل الكلمات أقلها حروفًا، وأبلغ الجمل أقلها كلمات» كما رصد في الجزء الثاني من هذا الكتاب سيرة والده الملك فيصل تحت عنوان (فيصل الإنسان).ونجد الأمير عبد الرحمن بن مساعد يتسم شعره بالإبداع والجمال، وتتناول قصائده مواضيع متنوعة من الحب والعلاقات إلى تأملات في الحياة والوجود، وقد تغنى بأعماله عدد من الفنانين العرب البارزين مثل أصالة وأنغام وغيرهم، والذي يحمل عبقًا شعريًّا فواحًا بأسلوب سهل ممتنع، لما يتمتع به من فكر وموهبه شعريه فذة.أما الشاعر الأمير عبد الله الفيصل «والذي تغنى بقصائده العديد من نجوم الغناء العربي، حيث تميز شعره بالرقة المفعمة برومانسية حالمة، وصفاء موسيقي، ولكن اضطلاعه المبكر بالمسؤوليات حال دون خلوصه للشعر. والتقصي الدلالي واللغوي والفني والشكلي والإيقاعي لما أفضى به إلى المشاهد يجلي في عمله الشعري كل الوحدات التي لم يتوافر عليها معاصروه من شعراء العمودية، ومن ثم تجلت الوحدة الموضوعية في القصيدة الواحدة، وقد ألم بقضايا أمته، وأشاد بأمجادها، واستنهض همم الشباب، ولكن ذلك كله لا يخلصه من رومنسيته وذاتيته وعذريته، ومناجاته وخصامه لمن يحب وثورته الشعورية في بعض الأحيان».وقد غردت أم كلثوم شادية بشعر الأمير عبد الله الفيصل من أجل عينيك عشقت الهوى، وثورة الشك، ومن يصغي لكلماتها يجد نفسه مع حالة خاصة ونزعة نفسية متأججة، وصراع عميق يتجلى هذا الصراع الذاتي بين العقل والقلب والنفس والهوى بين عزة أمير، ونفس إنسان. وقد وقفت مع شعر الأمراء طويلا فوجدتني أمام نمط شعري خالد، يأخذ نزعة رومانسية متسمة بشجن عال، يجمع بين الحب والكبرياء.. بين خضوع الحب وعلو النفس.. والتي تأخذك إلى عوالم وفضاءات رحبة تجعلك محلقًا في سماء الهوى الأخاذ بعزة أمير، وقلب شاعر، وسمو المشاعر. يا فاتنا لولاه ما هزني وجدُ ** ولا طعمُ الهوى طاب ليهذا فؤادي فامتلِكْ أمرَهُ ** واظلمه إن أحببتَ أو فاعدل