الرأي

بين مقدمة ابن خلدون ومؤخرة الراقصة س: مأزق الكتابة الساخرة في الصحافة المحلية

نواف التبيناوي
الكتابة الساخرة في السياق المحلي لا تقتصر على كونها لونا خفيفا للترفيه، بل تمثل أداة تحليلية حساسة تختبر وعي المجتمع بقدرتها على كشف التناقضات وإعادة صياغة الأسئلة الصعبة بلغة مشعة بالخفة والعمق معا. غير أن هذا الفن يواجه مأزقا مركبا؛ إذ يجد نفسه محاصرا بين رقابة اجتماعية تقيد جرأته، وتقاليد مهنية تخشى الانزلاق إلى التهريج أو الإساءة، مما يجعله فنا معلقا بين الحاجة إلى النقد البناء والخوف من فقدان شرعيته أمام القارئ.في الصحافة المحلية، لا يقتصر دور الكتابة الساخرة على إثارة ضحكة عابرة؛ بل وظيفتها أن تقدم نقدا ذكيا يكشف التناقضات من دون تجريح. غير أن هذا الدور كثيرا ما يتعثر، إذ تميل بعض الأقلام إلى الوعظ المباشر، مستعيرة لغة المنابر بدل أسلوب المفارقة. فيتحول المقال الساخر إلى خطاب توجيهي جامد يفقد حيويته، ويستبدل قوة النقد اللماح بلهجة ثقيلة تبقي القارئ على السطح بدل أن تدفعه إلى التفكير.وتضل السخرية طريقها حين يبتذل التشبيه، فتتحول إلى التجريح الشخصي أو الإيحاءات المبتذلة، فتستهدف الأشخاص لا الأفكار، وتشتت انتباه القارئ بلقطة رخيصة، كما في المقارنات الممجوجة من قبيل «نحن في زمن مؤخرة الراقصة س، لا في زمن مقدمة ابن خلدون». أما المفارقة الذكية فلا تُشيّئ الجسد ولا تلاحق الفرد، بل تفكك آليات الاستهلاك وتكشف كيف تصنع النجومية وتوجه الأذواق، حتى حين نختلف مع فنه وأدائه. وهنا فقط تستعيد السخرية دورها كأداة للتنوير لا كوسيلة للتنفير.ومن أوجه هذا المأزق أن بعض النصوص الساخرة تنزلق إلى التحذلق، حين يغرق الكاتب نصه في استعراض ثقافي ومصطلحات متراكمة تفقد خفتها. ويتبع ذلك استعراض لغوي وتكلف بياني، يجعل النص أقرب إلى لغز من الكلمات المتقاطعة؛ ألفاظ متجاورة تثير الإعجاب الشكلي أكثر مما تكشف جوهر المفارقة. وفي النهاية يطل التغابي المصطنع، وحين يتظاهر الساخر بالدهشة من البدهيات، لا يجد القارئ إلا أن يبتسم مرارة، فشر البلية ما يضحك.ولعل المثال الأوضح على قوة المفارقة الساخرة نجده في ما كتبه جوناثان سويفت في مقترح متواضع (1729)، حين كتب وصفة صادمة «أعتقد أنني توصلت إلى مقترح عادل ورخيص وسهل، لا يفيد الآباء المثقلين بأعباء الأطفال فحسب، بل يخدم المملكة كلها. وخلاصته ببساطة: أن يربى أطفال الفقراء ليكونوا طعاما شهيا على موائد الأغنياء. فهذا يوفر للأمهات البائسات مصدر دخل، ويمنح الأغنياء طبقا فاخرا جديدا، ويخفف عدد الفقراء الذين يثقلون كاهل الدولة». هذه المفارقة الفظيعة عرضت قسوة الواقع في مرآة مفزعة، وتركت القارئ وجها لوجه مع نفسه من غير مواربة.خلاصة القول، ليست الكتابة الساخرة في الصحافة تفويضا للتهكم أو مجالا للوعظ المقنع، بل هي فن عظيم يوازن بين الخفة والجدية. وإذا أحسن توظيفها، تحول الضحك من لحظة عابرة إلى أداة لكشف المستور، ومن طرفة سريعة إلى بوصلة تقود القارئ نحو وعي أعمق بتناقضات الواقع.NALtbinawi@