الباص واحد والسائقون كثر...
الأربعاء / 25 / ربيع الأول / 1447 هـ - 04:50 - الأربعاء 17 سبتمبر 2025 04:50
في تجارب الدول كثيرا ما يختصر الإصلاح الإداري في تبديل الأشخاص؛ قيادي يتقاعد فيحل آخر محله، وزير يرحل ليأتي غيره، وننتظر أن يحدث السحر فلا يحدث، إذ تتبدل الوجوه ويبقى المشهد على حاله. ولسنوات طويلة هيمن ما يعرف بأسلوب «رأس السمكة»، أي الاكتفاء بتغيير القيادات العليا دون معالجة الخلل في الجسد الإداري نفسه. وهكذا يبدو المشهد كما لو أن «الباص» يمضي ببطء في الطريق ذاته، والسائقون يتناوبون على مقعد القيادة من غير إصلاح للمحرك أو التخلص من العناصر غير المنتجة. وتزداد الصورة قتامة حين تكافئ بعض المؤسسات المجتهد بالإنهاك، وتبقي المتراخي في موقعه، فتتحول إلى محرقة تستهلك الطاقات بدل أن توظفها، فتعجز عن تحقيق التوازن وتتراجع جودة الأداء.الحلول الإدارية لا ترتبط بتبديل الأفراد فقط، بل ببناء مؤسسات ناضجة وقادرة على الاستمرار، فقد أظهر تقرير مركز أداء 2023، تحسن أداء أكثر من 85% من الجهات الحكومية، فيما أشار البنك الدولي إلى تقدم السعودية في فاعلية الحكومة من المرتبة 61 إلى 39 بين 2015 و2022. كما جرى تأهيل أكثر من 2,500 قيادي عبر أكاديمية تطوير القيادات، في مسار يركز على الكفاءة لا الأسماء.تجلت ملامح هذا التحول في وزارة الإعلام، التي عرفت طويلا بوظيفتها الرقابية، بينما ظل الأداء محدودا رغم تغير الوزراء، بسبب غياب الجاهزية المؤسسية. اليوم، أصبح التركيز على تحويل الإعلام إلى صناعة قائمة بذاتها، هدفها رفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي إلى 6.5 مليارات ريال، بدعم مبادرات مثل المدينة الإعلامية، وتدريب آلاف المتدربين.في وزارة الصحة كانت التحديات واضحة: طوابير انتظار طويلة، خدمات متفاوتة بين المناطق، وكفاءة ضعيفة. ومع تطبيق مؤشرات الأداء تقلصت مدة بقاء المريض وزادت الطاقة الاستيعابية. ورغم النتائج الملموسة، يبقى الطموح أكبر: تطوير المستشفيات الحكومية لتكون نموذجا متكاملا، وربط الأرقام بأثر يومي يلمسه المواطن في سرعة الإنجاز والرضا عن الخدمات.أما التعليم فهو التحدي الأصعب لأنه يمس كل بيت. إذ خلفت سنوات التلقين مخرجات بعيدة عن سوق العمل. غير أن الإصلاحات الأخيرة طالت المناهج والرقمنة وتأهيل الجامعات، فقفز التعليم السعودي رقميا وأكاديميا بدخول 16 جامعة التصنيفات العالمية، واحتلال جامعة الملك عبد العزيز المرتبة 106 (QS 2025). وعلى خطى دول ككوريا وسنغافورة، نجحت منصة مدرستي في خدمات التعليم الالكتروني بدمج تقني 84.26%، ما يثبت أن التغيير أصبح له نتائج ملموسة.وإذا نظرنا إلى وزارة الداخلية نجد المثال الأوضح للتحول المؤسسي الخارق. فما كان يستغرق أياما وجهدا مرهقا، أصبح خدمة ميسرة بعد إطلاق منصة «أبشر» وانتشار الحكومة الرقمية، فتغير وجه الوزارة بالكامل. واليوم يستفيد أكثر من 30 مليون مستخدم بضغطة زر عبر نظام متكامل.ولأن التحول المؤسسي لا يكتمل من دون مواجهة الفساد، فقد تبنت السعودية مسارا حازما في المساءلة والشفافية عبر هيئة نزاهة. ففي عام 2024، باشرت الهيئة 6,980 قضية، واستردت أكثر من 4.2 مليارات ريال، في تأكيد أن المساءلة أصبحت منظومة مؤسسية راسخة تحمي المال العام وتعزز كفاءة الأداء على حساب النفوذ والمجاملات.وفي هذا الإطار، يؤكد سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في كلمته لرؤية 2030 «نلتزم أمامكم أن نكون من أفضل دول العالم في الأداء الحكومي الفعال، ومعا سنكمل بناء بلادنا لتكون كما نتمناها جميعا مزدهرة قوية تقوم على سواعد أبنائها وبناتها. وسنفتح مجالا أرحب للقطاع الخاص ليكون شريكا، بتسهيل أعماله وتشجيعه، لينمو ويكون واحدا من أكبر اقتصادات العالم».المسألة الأشد إلحاحا هي مقاومة التحول والاكتفاء بإصلاحات شكلية لا تمس جوهر الثقافة المؤسسية. فالفرد البطل، من داخل المنظومة أو خارجها، قد يفتح باب التغيير، غير أن الاستدامة تتحقق بربط مؤشرات الأداء بالمكافآت أو الجزاءات، لتساند القيادي المنجز، وتستبعد صاحب الفكر القديم.ويبقى ضعف التنسيق بين الجهات إحدى العقبات البارزة، الأمر الذي يجعل إنشاء وحدات للتعلم المؤسسي في كل وزارة وهيئة ضرورة، تلتقط التجارب وتحولها إلى أدلة تشغيلية تمنع العودة إلى نقطة الصفر. ويظل التغيير ناقصا إذا بقي الموظف أسير عقلية «أداء الحد الأدنى» كما هو الحال في القطاعات الحكومية، لذا تصبح برامج تطوير السلوك الوظيفي ضرورة، بحيث تغدو المبادرة والابتكار جزءا من التقييم الوظيفي. كما أن تجاوز عنق الزجاجة يتطلب تمكين القيادات الوسطى، وضخ دم متجدد يكسر البيروقراطية، بالإضافة إلى جعل المواطن شريكا في الرقابة والتقييم، لترسيخ ثقافة المساءلة.«أعظم إنجاز للقائد أن يزرع في مؤسسته القدرة على الاستمرار من دونه» كما يقول بيتر دركر. ونحن وطن يدرك أن الإنسان محرك التحول، وأن قيادة حكيمة وشعبا طموحا وموارد مباركة، قادرة على صنع مستقبل يليق ببلاد تدهش العالم من جديد.smileofswords@