تجارة على أكتاف التفاهة
الثلاثاء / 24 / ربيع الأول / 1447 هـ - 13:17 - الثلاثاء 16 سبتمبر 2025 13:17
الكلمة الصادقة أمانة، وهي من أعظم ما يصلح الله به حال المجتمعات، ليست مجرد صوت عابر أو رأي يلقى جزافا، بل هي جسر بين الحق وأهله، ومرآة تظهر ما خفي من عيوب أو انحرافات، والمجتمع الذي يتعود على سماع الكلمة الصادقة هو مجتمع حي، لا يسمح للخطأ أن يستفحل، ولا يرضى أن تزاحم الحقائق أوهام الزيف.في كتابه الشهير 'نظام التفاهة' يقول الفيلسوف (آلان دونو):'إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير الزمن زمن الحق والقيم، ذلك أن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم، فعند غياب القيم والمبادئ الراقية، يطفو الفساد المبرمج ذوقا وأخلاقا وقيما، إنه زمن الصعاليك الهابط'.ومن أبرز الظواهر التي تستحق النقد اليوم، ما يفعله بعض التجار حين يستبدلون صوت الجودة والصدق، بضجيج يملؤه العري والتفاهة، يظنون أن نجاح تجارتهم لا يكتمل إلا باستدعاء مشاهير لا يحملون إلا المظاهر الفارغة، فيضعونهم في صدارة المشهد، وكأنهم هم سر الرزق وسبب البركة، بينما الحقيقة تقول: إن التجارة الناجحة لا تحتاج إلى هذا الضجيج، بل تكفيها جودتها، ويكفيها أن تقوم على الصدق مع الناس. فما أتعس أن يكون للتاجر بضاعة صالحة، ثم يفسد صورتها بربطها بوجوه لا تليق بها.الغريب أن كثيرا من هذه البضائع لها رواجها الطبيعي في السوق، لكنها تلبس ثوبا غريبا عنها، وكأنها لا تقوم إلا على أكتاف من لا يعرفون إلا الإثارة والجدل، وهذا في جوهره نقص في الثقة، وفقدان للبصيرة، فالناس في النهاية يميزون بين الضجيج والحقيقة، وبين الإعلان الذي يضيف قيمة، والإعلان الذي لا يتجاوز كونه استعراضا فاضحا، والزمن كفيل بأن يكشف ما وراء اللمعان السطحي من خواء داخلي.والأشد إيلاما أن بعض هؤلاء 'المشاهير' لا يقدمون للناس سوى محتوى ساقط: عبارات مبتذلة، أو مظاهر عري، أو سلوك لا يمت للأدب والذوق بصلة. فإذا وُضعوا في الواجهة، بدا الأمر وكأنهم رموز يقتدى بهم، في الوقت الذي يقصى فيه أهل الكفاءة والموهبة والإبداع، وهنا لا تكون المشكلة مجرد إعلان تجاري، بل رسالة خطيرة تتسلل إلى المجتمع: أن التفاهة طريق للنجاح، وأن الانحلال وسيلة للشهرة. وهذا ما يهدد منظومة القيم، ويشوه الذوق العام.الحقيقة أن البدائل موجودة، والخير واسع، في الناس من الموهوبين وأصحاب الفكر والإبداع من هم أحق بالصدارة، وأجدر أن يكونوا وجوها للتجارة الناجحة، بل إن بعض التجار لو صبروا على طريق الصدق، وجعلوا أساس تسويقهم على جودة المنتج وخدمة الناس، لكفاهم ذلك، ولرأوا من البركة ما يغنيهم عن طرق مشبوهة، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وهذه قاعدة مجربة لا تتخلف، الرزق ليس بيد هؤلاء، بل بيد من بيده خزائن السماوات والأرض.في الختام، فلتكن تجارتنا ناصعة الوجه، نظيفة اليد، بعيدة عن مظاهر الخزي والابتذال، فإن السوق ليس مجرد أرقام تكتب في دفتر، بل هو رسالة تنعكس على المجتمع، وكل تاجر يختار لنفسه: إما أن يكون شريكا في بناء الذوق والوعي، أو أن يكون سببا في انحداره، والرزق الذي يأتي عبر طرق ملتوية لا يحمل بركة، بل يجر وراءه ضيقا ونكدا، أما الرزق الذي يأتي من الصدق والنقاء، فهو رزق يملأ القلب قبل الجيب.