الرأي

إسرائيل كيان مكشوف، ولم تعد قلعة محصنة

علي عبدالله باوزير
نرى إسرائيل تتمادى في غطرستها وهي تعتدي شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وتقصف قطر وتحتل أراضي سوريا ولبنان، وتتوعد بإنشاء «إسرائيل الكبرى».فهل ما نراه هو «استعراض» لقدرات إسرائيل، أم أنه «تغطية» على قدراتها الحقيقية، بل وربما هو استباق لمخاوفها مما قد تتعرض له في المستقبل؟للإجابة علينا الرجوع إلى الوراء قليلا:قامت إسرائيل في الأول من شهر إبريل/ نيسان لعام 2024م بقصف مبنى ملحق بالقنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، التي كانت إحدى أهم مراكز النفوذ الإيراني في المنطقة، ونتج عن ذلك القصف مقتل عدد من القيادات الإيرانية الهامة.وطال انتظار رد الفعل الإيراني الذي أتى بعد أكثر من شهر كامل، وكان ردا أكثره مسيرات بطيئة أمكن إسقاطها بسهولة، فلم يكن للرد الإيراني أثر عسكري ذو شأن، تماما كالرد على اغتيال علماء برنامجها النووي أو الرد على اغتيال إسماعيل هنية، أو حتى الرد العسكري المحدود على مقتل قاسم سليماني الذي كان يتوقع أن يؤدي إلى صراع إقليمي كبير.لكن، عندما قامت إسرائيل في يوم 13 يونيو/ حزيران من هذا العام بهجمة كبيرة على البرنامج النووي الإيراني بالمشاركة مع أمريكا، فوجئ العالم برد صاروخي إيراني سريع تمكن من تدمير عدد كبير من الأهداف المدنية والعسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية الحساسة... بالرغم من التواجد العسكري الأمريكي المكثف ومحاولة إسرائيل والولايات المتحدة معا إسقاط هذه الصواريخ.فهل كان ذلك حدثا استثنائيا، أم أنه حدث نتوقع أن يتكرر في صراعات قادمة؟وهل هناك «طرف خفي» لم يعلن عن نفسه في الصراع مع إسرائيل؟لطالما ساد الاعتقاد أنه لن تجرؤ قوة من خارج المنطقة على التدخل في الصراع مع إسرائيل لأن ذلك سوف يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع أمريكا، بل وربما يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، لكن المشهد الدولي قد تغير، وكذلك المشهد الإقليمي:فعلى المستوى الدولي فشلت الجهود الأمريكية في الضغط على القوى الصاعدة، بدءا بفشل الحرب الأوكرانية في تحقيق أهدافها العسكرية، بل العكس، تقدمت روسيا عسكريا وضمت إليها مساحات كبيرة من أوكرانيا... كما فشلت العقوبات الاقتصادية في كسر اقتصاد روسيا أو زعزعة حكومتها، بل العكس: نمت روسيا اقتصاديا، وازداد استقرار حكومتها، بالرغم من الحرب والعقوبات.وبالمثل لم تفلح الضغوط على الصين في تحقيق أي نتائج ملموسة، بل ازداد صعود الصين على المسرح الدولي: جيوسياسيا وعسكريا وماليا واقتصاديا وتكنولوجيا، وازداد عدد الدول الراغبة في الانضمام إلى مجموعة شنغهاي ومجموعة البريكس، ومن بينها دول مهمة كانت أمريكا - بسوء تعاملها - هي السبب في دفعها نحو الصين!وفي المقابل: تتراجع أمريكا على المستوى الجيوسياسي والعسكري والمالي والاقتصادي والتكنولوجي أمام الشرق، بينما الشعار الذي رفعه الرئيس دونالد ترامب «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» (MAGA) Make America Great Again أصبح شعارا يسبب انشقاقات واسعة في المجتمع الأمريكي ولا يحقق شيئا على أرض الواقع... وقد أدت الضغوط الأمريكية المتزايدة على الحلفاء إلى ظهور شروخ واضحة في التحالف الغربي، وتراجع دور مجموعة السبع دول الصناعية G7 على المستوى الدولي.وتبقى أمريكا هي القوة الأعظم حتى وقتنا هذا، إلا أن كفة ميزان القوى تميل مع الوقت إلى التحالف الذي تقوده الصين وروسيا.أما على المستوى الإقليمي، فإسرائيل تعاني من أزمات ديمغرافية واقتصادية وسياسية وعسكرية وإعلامية: فالتوازن السكاني يميل نحو سكان الأرض الأصليين، والاقتصاد الإسرائيلي يعاني من عجز متصاعد، والتركيبة الحكومية الإسرائيلية غير مستقرة، وقد تبخرت أسطورة الجيش الإسرائيلي، والأجواء الإسرائيلية منتهكة والدفاعات الجوية لا تستطيع صد الهجمات الصاروخية، بينما ظهر اعتماد إسرائيل المطلق على الدعم الخارجي في حرب تشنها على شريط غزة الضيق والمحاصر من جميع النواحي... وانكشفت البشاعة الصهيونية إلى غير رجعة، وتراجعت صورة إسرائيل ولم يعد بالإمكان التغطية على انكشاف صورتها: لا سياسيا ولا إعلاميا.كما ازدادت التكلفة التي تتحملها الحكومة الأمريكية نتيجة دعمها المطلق لإسرائيل: فقد تحملت أمريكا عشرات المليارات في دعمها لإسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، وتحملت الشركات الأمريكية خسائر كبيرة نتيجة لحملات المقاطعة... عدا التكلفة السياسية داخليا وخارجيا، كما نشهد تصادم ما بين شباب الجامعات والحكومة الفيدرالية الأمريكية، والتساؤلات المتزايدة داخل المجتمع الأمريكي عن الدور الذي تلعبه المنظمات الصهيونية مثل أيباك AIPAC، وعن حقيقة ولاء بعض كبار السياسيين الأمريكيين لإسرائيل، خاصة أولئك السياسيين الذين يحملون جنسية مزدوجة إسرائيلية/أمريكية... بينما العالم يرى أمريكا وهي تدعم ما ترتكبه إسرائيل من مذابح، حتى أصبحت إسرائيل سببا في فقدان أمريكا أي مصداقية لما كانت تدعيه عن حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو «زعامتها الأخلاقية».والخلاصة أن إسرائيل تحولت من رصيد استراتيجي strategic asset إلى عبء كبير major liability على أمريكا... وقد ازدادت عزلة إسرائيل دوليا كما رأيناه في قرار مجلس الأمن التنديد بالعدوان الإسرائيلي على قطر، وكما شهدنا في التصويت الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة على إنشاء الدولة الفلسطينية.. وأصبح واضحا أن أمريكا لن تستطيع الاستمرار في دعم إسرائيل سياسيا بلا نهاية.أما على المستوى الدولي عسكريا، فقد ازدادت القوى الصاعدة قوة وثقة بنفسها، وقد علا صوتها وازدادت جرأة في التعامل مع المعسكر الغربي: ولا شك أن هذه الجرأة قد تترجم إلى عمل عسكري - مباشر أو غير مباشر - تقوم به القوى الصاعدة ضد أحد حلفاء أمريكا - خاصة أقرب حلفائها - ولو من باب الرد على التهديدات العسكرية التي يمارسها المعسكر الغربي في بحر الصين وأوكرانيا.وليس سرا من هو الحليف الأقرب لأمريكا الذي لا تستطيع التخلي عنه أو تجاهل أي تهديد له، ما يجعل من الممكن استدراج أمريكا عن طريق إسرائيل.. كما تم استدراج روسيا عن طريق الهجمة على الجالية الروسية في أوكرانيا.وما استعراض القوة الإسرائيلي هذا الذي نشهده في سوريا ولبنان وقطر وغيرها، سوى استعراض مرتبط بوجود قوات وأساطيل أمريكية وبريطانية وقوى غربية تحمي إسرائيل وتمدها بالسلاح وبالذخيرة وبالغطاء السياسي والمعلومات الاستخباراتية، بينما إسرائيل تفخخ المنطقة بأكملها بما هو في غير مصلحة الغرب في كثير من الأحيان.. ولن تبقى تلك القوات والأساطيل تحمي إسرائيل للأبد، والشعوب الغربية تراجع موقفها من إسرائيل، ولن يقبل الشعب الأمريكي أو الشعب البريطاني استمرار حكومته في دعم إسرائيل بلا حساب.فقد سقطت سردية «معاداة السامية» التقليدية وأصبح هناك تيار شعبي عالمي جارف مناهض لإسرائيل وما تمثله، حتى في أمريكا: حيث تتزايد التساؤلات داخل المجتمع الأمريكي عن الأسباب الحقيقية وراء دعم إسرائيل، وكذلك في بريطانيا: حيث لا تتوقف التظاهرات الحاشدة ضد إسرائيل، وحيث قام رئيس حزب العمال السابق بتأسيس محاكمة شعبية لكشف تورط الحكومة البريطانية في جرائم إسرائيل في غزة...كل ذلك لن يسمح لإسرائيل بالاستمرار في اعتمادها على الدعم الأمريكي/البريطاني المطلق والغربي عموما، فإسرائيل تسير في الطريق ذاته الذي سبق أن سارت فيه حكومة جنوب أفريقيا العنصرية.ولم يعد ممكنا التغطية على حقيقتها، ومهما حاولت إسرائيل التغطية على انكشافها، إلا أن الرسالة قد وصلت... وفهمها العالم.