الرأي

جمعية الأدب بين المهنية والقطاع غير الربحي: نحو خارطة طريق لمرحلة ما بعد التأسيس

مطير سعيد الزهراني
حين تأسست جمعية الأدب المهنية قبل أربع سنوات، مثلت حدثا مفصليا في المشهد الثقافي السعودي، لأنها وضعت الأدب في مساره المؤسسي، وربطته لأول مرة بالقطاع غير الربحي على نحو مباشر، وقد كانت تلك المرحلة الأولى بمثابة لحظة التأسيس، حيث انصب الجهد على إثبات الوجود، وبناء الهوية، واستقطاب الأعضاء، وتوضيح فكرة أن الأدب ليس مجرد نشاط فردي أو نخبوي، بل مهنة قابلة للتأطير ضمن منظومة مؤسساتية، واليوم، وقد انتهت الدورة الأولى لمجلس إدارتها، تدخل الجمعية منعطفا جديدا يستدعي الانتقال من مرحلة التعريف والتجريب إلى مرحلة النضج والتأثير.المرحلة التأسيسية كانت ضرورية، لكنها لم تكن كافية؛ إذ انحصرت إنجازاتها في التأسيس والتمثيل الأولي، فيما بقيت قدرتها على صناعة برامج نوعية أو تكوين أثر ملموس محدودة؛ وهذا طبيعي في سياق الجمعيات الجديدة، لكن المجلس الجديد لم يعد يملك رحابة البدايات، بل يواجه استحقاقات مختلفة تتطلب معايير مهنية صارمة، وخططا استراتيجية مدروسة، وآليات حوكمة واضحة، فالمعيار الحقيقي لنجاح الجمعية لن يكون بعدد أنشطتها الرمزية، بل بقدرتها على تمكين أعضائها، وصياغة مبادرات ذات أثر، وقياس نتائجها بلغة الأرقام والتقارير.إن العمل في القطاع غير الربحي يفرض قوانينه الخاصة، فالجمعيات التي تدار بعقلية ارتجالية أو بنفَس تقليدي سرعان ما تتوقف عند حدود ضيقة، أما الجمعيات التي تستوعب منطق القطاع غير الربحي، فتدرك أن نجاحها يقوم على الحوكمة الرشيدة، والشفافية في القرارات، وتنويع مصادر التمويل، وإقامة الشراكات الاستراتيجية، والقدرة على إدارة المشاريع بمعايير علمية؛ وهذا يعني أن مجلس الإدارة الجديد لا يكفيه أن يكون ملما بالأدب والثقافة، بل يجب أن يتقن أيضا لغة الإدارة المؤسسية، وقواعد التمويل، وأساليب الاستدامة، والجمع بين هذين البعدين هو ما يجعل الجمعية مختلفة وفاعلة.وإذا كان ثمة خطر يهدد الجمعية في هذه المرحلة، فهو أن تقع في فخ استنساخ ممارسات الأندية الأدبية التقليدية، تلك الممارسات التي ظلت لعقود أسيرة الأمسيات المكررة، والاحتفالات الشكلية، والأنشطة التي لا تترك أثرا مستداما. إن جمعية الأدب المهنية إن عادت إلى هذا النموذج، فإنها ستفقد مبرر وجودها، لأن الرسالة الأساسية التي تأسست من أجلها هي أن تحدث نقلة نوعية في إدارة الأدب كمجال مهني، لا أن تعيد إنتاج ما تجاوزه الزمن.لذلك، فإن خارطة الطريق لما بعد التأسيس يجب أن ترتكز على خمس ركائز متكاملة:الأولى: المهنية المؤسسية، عبر تعزيز الحوكمة، وضبط اللوائح، وضمان الشفافية في اتخاذ القرار.الثانية: البرامج النوعية، التي تفتح أمام الأدباء فرص التدريب، ودعم النشر، وتمكين المواهب الجديدة.الثالثة: الاستدامة المالية، من خلال تنويع الموارد عبر خدمات مهنية، شراكات، ومبادرات مبتكرة تتجاوز الاعتماد على الدعم المؤقت.الرابعة: الشراكات الاستراتيجية، مع الجامعات، والوزارات، والمؤسسات الثقافية العالمية، لتوسيع الأثر وتبادل الخبرات.الخامسة: الهوية الجديدة، التي تفصل الجمعية عن عباءة الأندية القديمة، وتمنحها شخصية مهنية مختلفة تعكس جديتها وتفردها.بهذا التصور، يمكن للجمعية أن تعبر من مرحلة التعريف إلى مرحلة الريادة، وأن تتحول من مجرد كيان ناشئ إلى مؤسسة ثقافية راسخة، تحمل على عاتقها مسؤولية تطوير الأدب كقطاع غير ربحي، وتفتح أمام الأدباء مسارات مهنية مستدامة، أما إذا بقيت حبيسة الماضي، فإنها ستظل هامشية، عاجزة عن الوفاء بالرسالة التي انتظرها منها المجتمع الثقافي.إن مجلس الإدارة الجديد يقف اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة: إما أن يكتفي بتكرار التجربة الأولى، وإما أن ينطلق برؤية علمية تجعل من الجمعية نموذجا فريدا في ربط الأدب بالقطاع غير الربحي، والفرصة متاحة إذا امتلك الجرأة على مغادرة المألوف، والقدرة على الجمع بين المهنية الثقافية والمهنية المؤسسية، فالأدب، حين يدار وفق منطق الحوكمة ويدعم بآليات الاستدامة، يتحول من ممارسة نخبوية إلى قوة مؤسسية قادرة على تشكيل الوعي وبناء المستقبل.Drmutir@