الرأي

الجاهلية المشرقة.. حين كانت "النخوة" دينا

عبدالعزيز العمران
بعد اندلاع حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب التي لازمت العرب أكثر من 40 عاما، والتي خلفت لنا الكثير من الأمثال والحكم المخلدة والقصص العميقة مثل 'لا ناقة لنا فيها ولا جمل' وقائله جار بن مرة بعد اندلاع حرب البسوس، حين تورطت القبائل في القتال، وكان يود أن يبتعد عن الحرب والنزاع، لأنه لم يكن له يد في قتل كليب ولا في إشعال الفتنة، وقال أكثم بن صيفي التميمي 'أشأم من ناقة البسوس' وذلك لأن ناقة البسوس (خالة جساس) كانت السبب المباشر في إشعال حرب البسوس، التي دامت 40 عاما بين قبيلتي تغلب وبكر، بعد أن قام كليب بن ربيعة بقتل الناقة، فثارت الفتنة، بينما قال الزير سالم 'بل بشسع نعل كليب' ويقصد بـ'شسع النعل': السير أو الرباط الذي يربط به النعل، وهي إشارة إلى أن ابن الحارث بن عباد الذي قتله الزير ثأرا لرباط نعل كليب وليس كليبا، وهذه مهانة واضحة من الزير سالم لبجير بن الحارث بن عباد.ما أود طرحه للقارئ الواعي هو أن زمن الجاهلية فيه ما فيه من مساوئ، ولكن يجب علينا أن ندرك الخصال الحميدة لدى العرب ومكارم الأخلاق، وبما أننا أخذنا حرب البسوس أنموذجا وقاعدة لننطلق منها في الحديث، فلا بد من ذكر حادثة سرقة شرحبيل لخيل كليب بن ربيعة، والتي بدأت بلجوء شرحبيل إلى الزير سالم ليطلب 'الدخالة'، وهي عادة عربية قديمة، يطلب فيها الرجل الأمان من خصمه، فيعطيه الأمان ولا يقتله، وبعد أن آمنه الزير مكر شرحبيل وتغافله بسرقه الخيل الأكثر حبا لكليب، فقابله والده وقال 'لا تخبر العرب بذلك؛ لكي لا تموت النخوة في نفوسهم، فلا يجير أحد ملهوفا بعد'.رغم ما يعرف عن الجاهلية من حروب وصراعات وقبلية، إلا أن العرب قبل الإسلام كانوا يحملون موروثا من القيم النبيلة التي شكلت أساسا متينا لبناء حضارة راقية فيما بعد، فقد عرفوا بالكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف والوفاء بالعهد والنجدة وعلو الهمة وصون الجار وحماية الذمة، وهي صفات لم تلغ ببعثة النبي ﷺ، بل جاء الإسلام ليعززها ويهذبها ويوجهها نحو الخير والعدالة.قال النبي ﷺ 'إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق' (رواه أحمد)، وهي عبارة تختصر فلسفة الإسلام الأخلاقية؛ فالدين لم يبدأ من فراغ، بل جاء ليأخذ أجمل ما في الفطرة العربية ويصقله بنور الوحي والرحمة، ومن هذا المنطلق، نجد أن حادثة الدخالة بين الزير سالم وشرحبيل، وما أعقبها من استنكار لخيانة الأمانة، تبرز مدى حساسية العرب تجاه القيم حتى قبل نزول الوحي، وكيف أن العيب الأخلاقي كان مرفوضا اجتماعيا، وهو ما مهد لقبول رسالة الإسلام الأخلاقية العظيمة.azizomraan@