الرأي

تاريخ البحث في الشيخوخة

نبيل عبدالحفيظ الحكمي
منذ أكثر من 5000 سنة، لم يتوقف الإنسان عن السعي لكشف أسرار الشيخوخة وسبل إطالة عمره، واعتبر هذا المسعى أحد أكثر الجهود استمرارية وإثارة للاهتمام في تاريخنا البشري بشكل عام. الحضارات الإنسانية القديمة من حضارة بابل ومصر مرورا بحضارة اليونان وروما قد أدركت بالفعل التحديات التي تفرضها الشيخوخة على صحة الإنسان وحياته.الشيخوخة عزيزي القارئ هي عملية حيوية طبيعية تتميز بانخفاض تدريجي في وظائف الجسم والقدرة على التكيف مع الظروف الداخلية والخارجية بمرور الوقت، ويرجع ذلك إلى عوامل متعددة مثل تراكم التلف في خلايا الجسم، و»تقصير التيلوميرات» التي تحد من قدرة الخلايا على التجدد، إضافة إلى زيادة التأكسد والالتهابات وضعف الاستجابة المناعية، مما يؤدي في النهاية إلى تراجع أداء الأعضاء والأنظمة الحيوية وظهور أمراض مرتبطة بالعمر.في نصوص بابل القديمة، مثل «شريعة حمورابي»، نجد أدلة على اهتمام قديم بالطب ومعالجة مشاكل الشيخوخة. وأيضا في حضارة مصر الفرعونية، فقد وصفت بردية إدوين سميث (حوالي 1700 ق.م) مستحضرات كانت تستخدم بهدف تحويل «رجل مسن إلى شاب»، مما يعكس رغبة مبكرة في مكافحة الشيخوخة.وفي اليونان القديمة، قدم أرسطو (350 ق.م) واحدة من أوائل النظريات التي تربط بين طول العمر وكفاءة التنفس، حيث رأى أن فقدان «الحرارة الفطرية» تدريجيا يؤدي تدريجيا إلى الشيخوخة والموت. استمرت نظريات أرسطو مؤثرة على مدار مئات السنوات، كما أثر هذا الفكر بشكل واضح على الطبيب جالينوس (170 م)، الذي أكد على ضرورة الحياة المعتدلة والنظام الغذائي الصحي للحفاظ على الصحة وإطالة العمر والتقليل من أعراض الشيخوخة.خلال القرون الوسطى، استمر الاهتمام بأبحاث الشيخوخة، ولكن التفسيرات غالبا ما اعتمدت على «النظرية الغالينية» حول اختلال التوازن بين السوائل الأربعة، وأحيانا امتزجت بعلوم «الخيمياء» و»التنجيم». عزيزي القارئ، العالم ابن سينا في عام 1010م، ذكر في كتابه «القانون في الطب»، تفسير الشيخوخة بفقدان التوازن الداخلي للجسم، وأوصى بنمط حياة صحي لتأخير مظاهر الشيخوخة.أيضا العالم روجر بيكون (1270 م) حاول بشكل منهجي من خلال كتابه «علاج الشيخوخة» أن يضع أسسا علمية لمواجهة الشيخوخة، معتمدا على التغذية الصحية وممارسة التمارين والعيش في بيئة نقية ومتوازنة.بدأ العصر الحديث المبكر يشهد تحولا واضحا نحو المنهج التجريبي في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، خاصة مع ظهور فلاسفة وعلماء مثل العالم فرانسيس بيكون (1623)، الذي اعتبر مكافحة الشيخوخة هدفا أساسيا للعلم. كما تبنى العالم باراسيلسوس (1574) منهجا كيميائيا لتفسير الشيخوخة، ورأى أن تنقية الجسم من السموم قد تساعد على إطالة العمر.بدأت تظهر نظريات أكثر وضوحا حول أسلوب الحياة والصحة مع شخصيات مثل لويجي كورنارو (1467–1566)، الذي اشتهر بنظام غذائي شديد الاعتدال اعتبره سببا لطول عمره وصحته الجيدة. وقد نشر كتابه الشهير «فن العيش طويلا» عام 1558، وهو ما زال يذكر حتى اليوم في كتب الصحة العامة.تطورت البحوث في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين عزيزي القارئ مع ظهور نظريات علمية متقدمة وطرق تجريبية دقيقة. عالم مثل ليونارد هايفليك (1961) اكتشف أن للخلايا البشرية حدا أقصى من الانقسامات (حد هايفليك)، وهو مفهوم ساعد كثيرا على فهم عملية الشيخوخة على المستوى الخلوي.وخلال النصف الأخير من القرن العشرين، ركز العلماء على عدة مجالات رئيسية، مثل «التيلوميرات» التي تتحكم في انقسام الخلايا، والتوتر التأكسدي الذي يؤدي إلى تدهور الجسم مع تقدم العمر. اكتشافات مثل إنزيم التيلوميراز بواسطة إليزابيث بلاكبيرن (1978) وسينثيا كينيون التي اكتشفت العلاقة بين الجينات وطول العمر (1993) فتحت آفاقا جديدة في فهم كيفية إطالة الحياة.مع بداية القرن الحادي والعشرين، شهدت الأبحاث تطورا هائلا في مجالات مثل «إعادة البرمجة الخلوية»، والتي أظهرت إمكانية إعادة الخلايا إلى حالة شبيهة بالخلايا الجذعية، مما يبشر بقدرات جديدة على تجديد الأنسجة وتأخير الشيخوخة.وفي العقد الحالي (2020)، نعيش عصرا ذهبيا في بحوث الشيخوخة، حيث زاد عدد الدراسات العلمية بشكل هائل، وأصبحت التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، والتحليل الجينومي، وعلاج الخلايا المسنة بواسطة تقنيات متطورة مثل CAR-T، أدوات فعالة في مواجهة التحديات البيولوجية المرتبطة بالشيخوخة.أخيرا، يظل الطريق مفتوحا أمام الإنسانية لمواصلة هذا البحث، ومن المتوقع أن تؤدي هذه الجهود إلى تغييرات اجتماعية وفلسفية عميقة في المستقبل القريب.إذا تمكنا من تأخير الشيخوخة أو حتى إيقافها، فإن ذلك لن يكون مجرد انتصار علمي فحسب، بل قد يعيد تشكيل مفاهيمنا عن الحياة والموت، ويغير من البنية الاجتماعية والاقتصادية بشكل جذري.nabilalhakamy@