الرأي

البركة ما تلغي التوثيق: عقود الأسرة المنتجة ضرورة لا ترفا

عبدالله قاسم العنزي


في السوق اليومية، يظن بعض الناس أن التعامل مع الأسر المنتجة يكفي فيه الكلام الطيب والنية الحسنة، وأن البركة وحدها تكفي لحفظ الحقوق. لكن التجربة أثبتت أن حسن النية وحده لا يغني عن التوثيق، وأن العقود ليست رفاهية بل ضرورة لحماية الطرفين. فالنظام السعودي، وخصوصا نظام المعاملات المدنية، وضع قواعد واضحة تنظم العقود، وتلزم المتعاقدين بما اتفقوا عليه. فقد نصت المادة (92) على أن «العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو وفقا للنظام»، وهو ما يعني أن أي اتفاق غير موثق قد ينكر لاحقا، فيضيع الجهد والمال.

خذ مثلا هذه القصة الافتراضية: أسرة منتجة اتفقت مع شركة صغيرة على توريد وجبات غذائية يوميا بقيمة عشرة آلاف ريال شهريا. الاتفاق تم عبر اتصال هاتفي دون عقد مكتوب. في نهاية الشهر، رفضت الشركة دفع كامل المبلغ بحجة أن الوجبات لم تكن بالمستوى المطلوب. الأسرة حاولت إثبات التزامها لكنها لم تجد مستندا قانونيا، فخسرت نصف مستحقاتها. هنا يظهر أثر غياب التوثيق، ولو كان هناك عقد مكتوب يحدد الكميات والجودة وطريقة الدفع، لكان الحكم مختلفا.

وفي مثال آخر، أسرة منتجة متخصصة في الحلويات اتفقت مع أحد المقاهي على تزويده بأصناف معينة يوميا. الاتفاق تم بحديث ودي دون كتابة. بعد أسبوعين، توقف المقهى عن استلام الطلبات ورفض دفع أي تعويض، بحجة أن الزبائن لم يعجبهم المنتج. المحكمة عند نظر النزاع وجدت أن العقد غير مكتوب، وأن الشروط لم تثبت بدقة، فحكمت برد جزء يسير فقط من المبلغ. لو كان الاتفاق مكتوبا وموثقا، لأمكن للأسرة المطالبة بالتعويض عن الخسائر استنادا إلى المادة (138) التي تقرر أن «كل من لحقه ضرر من فعل غير مشروع له الحق في التعويض».

الأمر لا يتوقف عند البيع والشراء فقط، بل يمتد إلى حماية السمعة. أسرة منتجة استأجرت حسابا إعلانيا على منصة اجتماعية من أحد المسوقين، ودفعت له مبلغا مقدما، لكنه لم ينفذ الاتفاق. لم يكن هناك عقد مكتوب ولا رسالة توثق تفاصيل الاتفاق. عندما رفعت الدعوى، كان من الصعب إثبات الالتزامات. النظام هنا واضح: الكتابة وسيلة أساسية للإثبات، وقد نصت المادة (52) على أن العقد لا يقوم إلا بارتباط الإيجاب بالقبول على وجه يثبت أثره في المعقود عليه. لكن إذا غابت الكتابة، يصبح الإثبات معقدا ويعتمد على القرائن والشهود.

من هنا تتضح أهمية التوثيق، ليس كإجراء شكلي، بل كصمام أمان. العقود المكتوبة تحمي الطرفين من الغدر أو النسيان أو سوء الفهم. وهي لا تتطلب بالضرورة أوراقا رسمية معقدة، بل تكفي أحيانا رسالة الكترونية أو فاتورة تحمل توقيع الطرفين. الأهم أن يثبت فيها ما تم الاتفاق عليه بوضوح: الكمية، السعر، الجودة، ووسيلة الدفع.

الخلاصة، إن البركة لا تلغي التوثيق، بل البركة الحقيقية هي في احترام النظام وتطبيق القواعد التي تحفظ الحقوق. الأسر المنتجة حين توثق تعاملاتها، فإنها لا تحمي نفسها فقط، بل تبني ثقة أوسع مع عملائها، وتضمن لنشاطها الاستمرار والنمو. وكما يقول المثل «العقد يقطع الشك باليقين». ومن دون العقد، يظل الباب مفتوحا للنزاع والخسارة.