الرأي

من المليون إلى المليار: المهندس عبدالله الرخيص وصناعة مشروع حضاري عالمي

مطير سعيد الزهراني


أرسل إلي أحد الأصدقاء ملفا بعنوان (توأمك الرقمي)، فشدني منذ الوهلة الأولى، حيث لم يكن مجرد نص مترجم من مجلة الإيكونوميست، بل عمل مقصدي أعيدت صياغته ليقرب الفكرة العلمية إلى القارئ العربي دون إخلال بالمحتوى الأصلي، فقد بدا واضحا أن المترجم - المهندس عبدالله الرخيص - يتعامل مع الترجمة كفعل معرفي يتجاوز النقل الحرفي إلى إعادة إنتاج المعنى، ومن هنا بدأت رحلتي لاكتشاف مبادرته التي تطورت من مشروع مليون كلمة نافعة إلى إعلان جديد: مليار كلمة نافعة بحلول 2030.

وهذه المبادرة لم تولد في قاعات المؤتمرات أو مراكز البحوث، بل انطلقت من قرار فردي اتخذه الرخيص في عزلة جائحة كورونا، حيث وضع هدفا محددا: ترجمة مليون كلمة خلال خمس سنوات، لكن إرادته سبقته؛ إذ تجاوز الرقم قبل الموعد بعامين، ليتحول الإنجاز الشخصي إلى مبادرة وطنية ودولية، تبنتها وزارة الثقافة السعودية، ودعمتها منظمة اليونسكو، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، ومركز عبدالله بن إدريس الثقافي، وبذلك تحولت المبادرة من وعد فردي إلى مشروع حضاري عالمي.

وتعكس المبادرة إيمانا بأن الترجمة ليست مجرد ممارسة ثقافية، بل ركيزة حضارية وأداة لتحقيق العدالة المعرفية، فالعالم يعيش هيمنة لغوية تفرض الإنجليزية لغة مهيمنة على العلوم الحديثة، بينما تبقى لغات كبرى مثل العربية مهمشة في أطراف المشهد، ومن هنا تفتح ترجمة - مليار كلمة نافعة - المجال لملايين الناطقين بالعربية للولوج إلى أحدث ما ينتجه العقل الإنساني في الطب والهندسة والتقنية والعلوم الاجتماعية، بما يضعهم على خريطة التفاعل لا التلقي فقط.

وإذا أعدنا النظر في تجارب الحضارات، سنجد أن النهضات الكبرى كانت دوما مسبوقة بحركات ترجمة واسعة، ففي بغداد العباسية، شكل بيت الحكمة مؤسسة محورية جمعت نصوص الفلسفة والطب والرياضيات من اليونان وفارس والهند، ثم ولدت معرفة جديدة صاغت هوية الحضارة الإسلامية، وكذلك في الأندلس وصقلية، كانت حركة الترجمة العكسية من العربية إلى اللاتينية هي الأرضية التي انطلقت منها أوروبا نحو عصر النهضة، وهذه النماذج تبرهن أن الترجمة لم تكن مجرد وسيلة للنقل، بل شرط أولي لصناعة حضارة.

وتقدم النهضة اليابانية مثالا آخر، فقد اختارت حكومة الميجي في القرن التاسع عشر حركة ترجمة انتقائية للعلوم الغربية، لا تنقل النصوص فحسب، بل تولد مصطلحات يابانية أصيلة تستوعب هذه العلوم، مما مكن اليابان من بناء نهضة صناعية وتعليمية لم تفقد هويتها الثقافية، والصين بدورها تدرك اليوم القيمة ذاتها؛ إذ ترافق مبادرة الحزام والطريق (طريق الحرير الجديد) حركة ترجمة كثيفة للنصوص العلمية والثقافية، لتعيد صياغة موقعها في المخيلة العالمية، أما الهند، في تنوعها الداخلي، استخدمت الترجمة أداة لإدارة التعدد اللغوي وربط مكوناتها الوطنية، فضلا عن انفتاحها على المعرفة العالمية عبر الإنجليزية.

وتضع مبادرة - مليار كلمة نافعة - العربية على هذا الطريق، لكنها تتميز بأنها تأتي في لحظة تتزامن مع ثورة الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية، فالمشروع لا يقتصر على الجهد البشري، بل يستثمر إمكانات الترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي، مع ضمان حضور المراجعة البشرية لتظل الترجمة مقصدية تحمل روح النص، وهذه الثنائية - بين التقنية والإنسان - تمنح المشروع بعدا عمليا يجعله قادرا على تحقيق أهدافه بكفاءة.

كما أن ارتباط المبادرة برؤية السعودية 2030 يمنحها شرعية استراتيجية، فالرؤية جعلت الثقافة جزءا من البنية التحتية للتنمية، لا ملحقا ثانويا، وإذا كانت المدن الذكية والمشاريع الاقتصادية العملاقة تمثل البعد المادي للرؤية، فإن مشروع مليار كلمة نافعة يمثل بعدا من أبعادها المعرفية، ليجعل من السعودية مركزا عالميا في إنتاج وتداول المعرفة.

اسم المهندس عبدالله الرخيص سيبقى ملازما لهذه المبادرة، لأنها تكشف أن الأفراد حين يملكون الرؤية والالتزام قادرون على إطلاق مشاريع تحدث فرقا عالميا، فقد تحولت كلمته الأولى إلى وعد حضاري، ووعده إلى مبادرة، والمبادرة إلى مشروع عالمي يجد دعم الدولة والمنظمات الدولية، فمن المليون إلى المليار، لم يتغير الرقم فقط، بل تغيرت الأفق: من اجتهاد فردي إلى صناعة مستقبل ثقافي يخص العرب، ويمتد أثره إلى العالم كله.

إن (مليار كلمة نافعة) ليست مجرد كلمات تضاف إلى المكتبة العربية فحسب، بل هو إعلان بأن العربية تسعى لتستعيد مكانها في قلب حركة التاريخ، وهي خطوة لإعادة هندسة علاقتنا بالمعرفة، وتذكير بأن الحضارات تصنعها المعرفة بقدر ما تشكلها الصناعة، وأن كل كلمة نافعة مترجمة اليوم قد تكون غدا بذرة لفكرة، أو أساسا لاكتشاف، أو دعامة لنهضة بأسرها.