الرأي

الكاتب الاصطناعي

إبراهيم أبوبكر الأنصاري
يحرف بريق الشهرة عددا من الراغبين في التصدر، نحو محاولة حرق المراحل، ومسابقة الزمن، وإن كثرت التنازلات، وتعددت الزلات. تعود متابعو منصات التواصل الاجتماعي هذا الأمر؛ فلم يعد من الغريب رؤية من يطارد الشهرة بأي وسيلة.انتقلت عدوى هذا السلوك إلى بعض الكتاب في الأوساط المهنية، حيث يفترض أن تراعى أفضل معايير الاحترافية؛ فقد اندفعت مجموعة منهم إلى محاولة إرضاء خوارزميات منصة LinkedIn، من خلال نسخ النصوص والمقالات بعلاتها من نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، ونشرها في المنصة؛ بدافع الرغبة في تلقف أكبر قدر من الفرص الوظيفية، والتعاقدات التدريبية والاستشارية، المقرونة بضعف مهارات الكتابة، وضعف الكفاءة المتعلقة بطرق الاستفادة من الذكاء الاصطناعي فيها.راكمت هذه العوامل عند مراسلي الذكاء الاصطناعي، نشوة المواكبة المستمرة والتفاعل السريع مع كل جديد في الساحة، قبل محاولة فهم أبعاده وتأمل مضامينه، وساهمت في انعدام دافعيتهم نحو التعلم ومعرفة الطرق الصحيحة للتعامل مع نماذج الذكاء الاصطناعي؛ بسبب الاندفاع وراء الكم على حساب الكيف والجودة، المضاف إلى قلة المعرفة بالسياسات والأخلاقيات ذات العلاقة أو عدم الاهتمام بها.يستطيع القارئ المتأمل أن يتعرف بسهولة على المنشورات التي كتبها الذكاء الاصطناعي بالنيابة عن ناشريها؛ فهي بعد اعتمادها على ردود الأفعال المرتبطة بتحليل دليل أو حملة إعلامية أو صورة رمزية، مع إهمال سياقاتها، تتصف بالتكرار الأسلوبي الركيك، المبني على القوالب الجاهزة التي تتبعها نماذج الذكاء الاصطناعي في صياغاتها، إلى جانب تبنيها لأعلى درجات السطحية والبعد عن التفاصيل، فلن تجد في تلك الكتابات ما يشير إلى بصمة الكاتب أو رأيه أو تجربته الشخصية، فضلا عن الاقتباسات المتخصصة والمتابعات والشواهد الواقعية.وتدل تقنيات الذكاء الاصطناعي المخصصة لاكتشاف المحتويات المنسوخة من نماذجه على هذه المنشورات، وقد جربت تزويدها ببعض المنشورات التي تعددت أدلة كتابة الآلة لها، ولم تفاجئني ثقتها العالية بأن تلك النصوص لم يكتبها البشر بنسبة توقع وصلت إلى 98%، كما يعد تأرجح الصحة النحوية والإملائية عند أولئك الكتاب من المظاهر الواضحة على نسخ الكتابات من الذكاء الاصطناعي؛ فمن المستبعد أن تتجلى كفاءة الكاتب وذكاءاته اللغوية عند كتابة مقال تحليلي، وتختفي عند كتابة منشور قصير أو تغريدة عابرة!تتسبب هذه الممارسة في تراجع مصداقية الكاتب والجهة والعلامة التجارية؛ فالدراسات تشير إلى أن القراء لا يثقون في المحتويات المكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وقد نتج عن استطلاع رأي أجرته شركة Raptive المتخصصة في الإعلانات لثلاثة آلاف شخص في الولايات المتحدة أن ثقة الناس تنخفض بنسبة 50% تقريبا، مع انخفاض مستويات تفكيرهم في الشراء والدفع، عندما يشعرون أن الكتابة مولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي.علاوة على ذلك تفقد الكتابات مع هذه الممارسات قيمتها الحقيقية، المتمثلة في التفرد وخبرة الكاتب ورأيه وتجربته الشخصية، وتزهد القراء في المحتويات العربية المكتوبة، إلى جانب تأثيرها السلبي على مهارات من ينتهجها المرتبطة بالقدرة على التعبير وتوليد الأفكار وتنظيمها؛ حيث تربط مجموعة من الدراسات المتخصصة في اللغويات التطبيقية، ضعف هذه المهارات بنقص الاستعداد اللغوي الذي تعد مهارة الكتابة من أركانه الأساسية، ومن ذلك ما يشير إليه البروفيسور صالح الشويرخ من أن تعلم اللغة لن يكتمل إلا بتعاضد الدخل اللغوي والخرج اللغوي الذي تتقاسمه مهارة الكتابة مع مهارة التحدث.وتفوت ظاهرة مراسلي الذكاء الاصطناعي على هؤلاء المراسلين والجهات التي تتبنى نهجهم، فرصة الاستفادة الحقيقية من الإمكانات التي تتيحها نماذج الذكاء الاصطناعي، كما تقلب مفهوم تعلم الآلة الذي ينبغي أن يستوعبه من يتعامل مع الذكاء الاصطناعي، إلى مفهوم التعلم من الآلة أو اعتبارها ملقنا مع تكرار ما تقوله دون وعي.وتزيد مع هذه الممارسة صعوبة عثور جهات القطاعين العام والخاص على كتاب حقيقيين، يعتمد عليهم في إنتاج المحتويات السرية وعالية الأهمية، والمحتويات المتفقة مع سردية تلك الجهات وهويتها، مع إثبات التجارب المتكررة لضعف نماذج الذكاء الاصطناعي في الحفاظ على السردية، وتزايد أعداد من يكتبون ما لا يفقهون!يكمن التعامل الأمثل مع نماذج الذكاء الاصطناعي بالنسبة للكتاب في ترك الاستعجال، والتدرج في التعلم والترقي في مراحل الاحترافية، مع استصحاب الأخلاقيات ذات العلاقة والبعد عن الادعاءات الزائفة والانتحال؛ حيث توجب مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الصادرة عن الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) على كل من يوظف الذكاء الاصطناعي في محتوياته إعلام المستخدمين عندما يتم إنشاء الرسائل أو المحتوى بالذكاء الاصطناعي، وينبغي على الجهات أن تعي المخاطر التي تسببها هذه الممارسة على مصداقية محتوياتها وثقتها عند المستفيدين من خدماتها.يمكننا تشبيه محتويات الذكاء الاصطناعي الجاهزة بالأطعمة السريعة التي تسد جوع اللحظة مع خلوها من القيمة الغذائية ومراكمتها للمشكلات الصحية، ويمكننا تأمل كون الذكاء الاصطناعي يقوم بمهام أعقد من الكتابة؛ فهو يستطيع تقديم القهوة للضيوف، ويستطيع إجراء العمليات الجراحية، فهل نستفيد من إمكاناته تحت إشراف الأطباء المتخصصين القادرين على تقييم خطوات عمله وتقدير مستويات خطورتها، أم نسلم له أجساد المرضى ونعطيه كامل الحرية؟ibralansary@