موت المدرسة!
الأربعاء / 11 / ربيع الأول / 1447 هـ - 01:47 - الأربعاء 3 سبتمبر 2025 01:47
بداية، عودا حميدا لحياة تدور حول الدراسة والتعلم؛ وعودا مباركا للأمهات والمعلمين والمكتبات والطرقات والمباني المدرسية في بلادنا. وفيما يعود المجتمع إلى دوامة الروتين ذاتها، تواصل المدارس التجمل بطلاء الجدران وتبديل المكيفات وربما إدخال أجهزة حديثة، في محاولة لإشاعة التفاؤل والتحفيز.غير أن انطلاقة العام الدراسي لم تعد مجرد حضور صباحي وحصص وجرس انصراف، بل غدت رمزا وميدانا لنقاش أوسع حول معنى المدرسة نفسها، وما تعكسه من صورة لمستقبل التعليم. وها أنا أستأنف مقالاتي بعد عام من الصمت الاختياري، لأطرح السؤال الذي لا مفر منه: هل ما زالت المدرسة التي نعرفها تستحق أن تبقى؟لقد تربينا جميعا على معادلة بسيطة: أن التعليم الجيد مفتاح أساسي لمستقبل أفضل، غير أن هذه المعادلة أصبحت موضع شك. ففي عالم يقوده الذكاء الاصطناعي والتعلم الرقمي، أصبحت الشهادة وحدها عاجزة عن أن تكون مفتاحا لسوق العمل. فما جدوى أن ينفق ولي الأمر عشرات الآلاف من الريالات على مدارس خاصة أو دولية، ليكتشف بعد عقد كامل أن ابنه غير قادر على قراءة نص قصير بلغته الأم، العربية، وهي اللغة التي سيظل يحتاجها في عمله اليومي، حتى وهو يتقن لغة إضافية، لأنها ليست مجرد أداة للتواصل، بل انتماؤه ومعيار هويته.إن التعليم بلا هوية يشبه بيتا بلا أساس، ينهار مع أول اهتزاز. والمدارس الأجنبية في بلادنا تمثل سلاحا ذا حدين؛ فقد تكون نافذة للتفوق على الذات إذا التزمت برؤيتنا التعليمية وقيمنا الأصيلة. ومن هنا، يصبح الحديث عنها أمرا لا يمكن تجاوزه؛ فهي وإن كانت مرخصة وقائمة على أرض الوطن، ويمتلكها ويعمل فيها سعوديون، فإن وجودها يبقى مشروطا، حتى لا تغدو أداة لطمس الهوية وصناعة أجيال بلا ملامح، وتعميق الانقسام الطبقي بين أبناء الأغنياء في مدارس فاخرة، وبقية المجتمع العالق في مدارس حكومية عاجزة عن ملاحقة التغيير.أي عدالة هذه حين تصل رسوم مرحلة الروضة إلى 35 ألف ريال، و800 ريال لزي مدرسي واحد في المدارس الأجنبية، لتتحول المدرسة شيئا فشيئا من مؤسسة تعليمية إلى مشروع استثماري بحت؟ والأسوأ أن هذا التحول يجري تحت صمت وزارة التعليم، وكأن أولياء الأمور مجرد صرافات آلية تضخ المال بلا توقف، حتى لو كان الثمن استنزاف دخل الأسرة أو مراكمة الديون بحثا عن «التعليم المميز».ورغم ارتفاع نفقات التعليم العام، ما زال «فقر التعلم» يتسع؛ إذ يعجز 32% من أطفال الابتدائية في السعودية عن القراءة والفهم وفق تقرير البنك الدولي واليونسكو 2024. وفي المقابل، تتراوح رسوم المدارس الدولية بين 40 و100 ألف ريال، كاشفة فجوة صارخة بين الكلفة الباهظة وضعف المخرجات. والأدهى أن 65% من طلاب الابتدائية اليوم سيعملون مستقبلا في وظائف لم تبتكر بعد، فيما تعليمنا يتأخر ويتردد، ويجرب بلا استراتيجيات طويلة المدى. فلماذا لا نضع هدفا بخفض فقر التعلم إلى أقل من 20% حتى 2030، وبالأخص في اللغة العربية؟صحيح أن الدولة تضمن التعليم المجاني، وأن المدارس الخاصة تتحمل بعض العبء عن الدولة، لكن ذلك لا يعفي الوزارة من مسؤولية ضبط الرسوم ومنع الاستغلال. يمكننا تحقيق ذلك بوضع سقف لرسوم المدارس الخاصة ورياض الأطفال، مقابل دعم حكومي مشروط ببرامج توعوية وتعويضات للأسر المتوسطة والمحدودة. فالخيار متاح لولي الأمر، وعدالة الفرص تقتضي أن يبقى التعليم متاحا للجميع.وحتى لا نعمم، ثمة جهود وإنجازات لا يمكن إنكارها، غير أن الوقت لم يعد في صالحنا؛ فإعادة ابتكار المدرسة ليست رفاهية، بل ضرورة لضمان العدالة ومنع تحول التعليم إلى سلعة نخبوية. وهنا يبرز السؤال: هل مدارسنا جاهزة فعلا لهذا التحول، أم أننا ما زلنا نرضى بمبان متهالكة وفصول مكتظة، وترهل وظيفي يتمدد كالمرض الخبيث في الجسد، ومحاباة في توظيف الأقرباء والمعارف، وأداء يرفع عن المعلم العتب، بينما نتراخى في الأولويات الحقيقية؟فكرة «موت المدرسة» ليست جديدة؛ فقد تصاعدت مع الاعتماد على التقنية في أواخر القرن العشرين، وازدادت زخما مع صعود الذكاء الاصطناعي ومنصات التعلم الالكتروني. والحقيقة أن «موت المدرسة» ليس نبوءة خيالية، بل احتمال قائم إن استمر الجمود، واكتفينا بأرقام تسوق كإنجازات شكلية، فيما يتواصل إنهاك الكوادر الإدارية والتعليمية بالقياس والرصد والتقييم، بدل أن نهتم بجودة المدخلات وتجديد أساليب التعلم.فلسفة «المكان» نفسه ستنقرض، فالجيل القادم لن يحتاج إلى مبنى مدرسي بجرس وأسوار، بل سيحمل مدرسته في جيبه: شاشة صغيرة، خوذة واقع افتراضي، أو معلم ذكي على هيئة خوارزمية. موت المدرسة يا سادة لن يكون بسبب الذكاء الاصطناعي أو التعلم الالكتروني، بل بسبب عجزنا عن تحويلها إلى مساحات للتجديد، وبناء العقول، وإطلاق الطاقات الكامنة. فالمدرسة التي لا تتحول إلى فضاء للإبداع والتفكير النقدي والتفاعل الاجتماعي، لن تكون سوى مقبرة للأحلام.smileofswords@