الرأي

ضحايا البودكاست

عبدالحليم البراك
في مقهى صغير، اجتمعنا. جلسنا نلتهم قطع الكعك المشبعة بالسكريات كأننا ننتقم من جهاز البنكرياس في بطوننا، ونسكب فناجين القهوة واحدا تلو الآخر حتى أصبح الكافيين يجري في عروقنا أسرع من الدم. وما إن بلغنا مرحلة النشاط الخفيف والعيون الجاحظة، حتى قرر صديقنا أن يلقي علينا قنبلته الفلسفية «هل سمعتم عن ضحايا البودكاستات؟» قالها وكأنه يظن أننا سنسقط عن الكراسي من هول المفاجأة، لكننا بخبرة الثعالب أجبنا فورا «نعم». انكسرت نبرته قليلا، لكنه سرعان ما استعاد لياقته المراوغة وقال «طيب، اسمعوا الجديد...»ثم أطلق علينا مثاله الأول: «تتذكرون صاحبنا (سين) الأناني الذي لا يحب إلا نفسه؟»أجبنا «أي نعم، هو مشروع تمثال للأنا المتضخمة». قال «الآن صار أنانيا أكثر من السابق! لأنه استمع إلى بودكاست يحث على أن تعتني بنفسك أولا ولا تبذل حياتك كلها للآخرين، وكان الشعار، اهتم بنفسك فلن يهتم بك أحد مثلك، اهتم بنفسك ولا تهتم بغيرك». ضحكنا وقلنا «لكن يا عزيزي، هو لم يبذل للآخرين حتى علكة صغيرة طيلة حياته». رد صديقي «بالضبط! صار الآن يحمل شهادة دكتوراه في الأنانية، ويعتقد أنه تلميذ وفي لذلك البودكاست». وشعاره أنا أستحق أكثر!شربنا المزيد من القهوة لمزيد من الحديث في الناس، ثم قفز أحد الأصدقاء إلى مثال آخر: «أتعرفون (صاد)؟» الجميع أومأوا برؤوسهم. قال «ذلك النحيل، الذي يشبه خطا رفيعا في دفتر الرياضيات، صار أضعف من ظله! لأنه استمع إلى بودكاست عن الصيام الصحي وعدم الإفراط في الطعام، فأخذ النصيحة بحرفيتها حتى توقف عن الأكل تقريبا. أخشى أن ألقاه يوما فأصافح الهواء وأظنني صافحته».لم نكد ننتهي من الضحك حتى جاء الدور على (عين). قال أحدنا «أما هذا فسمع بودكاستا عن أن الطعام الصحي يقوي الجسد ويزيد النشاط والباءة، فقرر أن يجرب كل الأطعمة دفعة واحدة. صار يلتهم الأخضر واليابس، حتى صرنا نخشى أن يبتلع الطاولة معنا ونحن جالسون. هو الآن نسخة بشرية من الثلاجة المنزلية: تفتح فمه فتجد كل شيء فيه، وزيادة على وزنه الكبير صار في ازدياد أكثر!في تلك اللحظة لم ندرِ: هل نضحك على مآسي أصدقائنا أم نبكي على سذاجة عقولنا وحديثنا في الناس؟ فقررنا أن نضحك ونأكل المزيد من الحلوى حتى نؤكد أننا ضحايا لمقولة «الضحك يطيل العمر» لأنني سمعتها في بودكاست أيضا. خرجنا من المقهى في نشاط غير عادي، بعضنا بفعل السكر، وبعضنا بفعل الأفكار، وبعضنا - مثلي - بفعل الاثنين معا. وبينما أنا في طريقي للبيت، شغلت بودكاستا عاطفيا يتحدث عن «حب الناس والتضحية من أجلهم». تأثرت بكلام المذيع الذي كان صوته يقطر حكمة، حتى إذا بي أرى رجلا على وشك عبور الشارع. قلت في نفسي «هذه فرصتي الذهبية لأثبت أني إنسان نقي».توقفت فجأة لأفسح له الطريق، وابتسمت ابتسامة المخلص، لكن فجأة انهالت علي أبواق السيارات من كل الجهات: زمامير غاضبة، سائقون يصرخون كأنني ارتكبت جريمة، لأني توقفت في عرض الشارع من أجل أن يعبر أحدهم، وكان الأجدى به أن يذهب لخط المشاة إن كان ثمة خط!حينها أدركت الحقيقة: ما كل ما نسمعه نطبقه لأنه قد لا ينطبق علينا أو لا يناسب ظروفنا، وإلا انتهى بنا المطاف ضحايا بين عجلات السيارات. استعذت بالله من «مساعدة الآخرين»، وضغطت على دواسة البنزين كأنني أطارد شبحا في هذه الحياة!وبينما ابتعدت، قلت لنفسي «أقسم أن أطفئ البودكاستات... على الأقل حتى أجد بودكاستا يعلمنا كيف ننجو من البودكاستات!».