الرأي

إحراق الفضيلة

هند علي الغامدي
قرأت مؤخرا مقالا عن إحراق المصحف الشريف ودوافع الحارقين وردود الأفعال التي يسعون إلى اجتلابها، والمقال تحليلي جميل ذكرني بحقيقة إنسانية أزلية سجلها القرآن الكريم بوضوح في عدة مواضع، ومنها قصة سيدنا لوط عليه السلام مع قومه حين قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف حاكيا قول قوم النبي لوط عليه السلام {وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}، وفي سورة النمل {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}؛ إذ لم يجد قومه - عليه السلام - ما يردون به على دعوته إياهم إلى الفضيلة وترك الرذيلة والجرم الذي كانوا يفعلونه إلا أن أمروا بإبعاده وإخراجه من قريتهم هو ومن آمن معه بلا ذنب إلا أنهم {يتطهرون}، فهم لم يستطيعوا تقبل وجود من رفض أن يكون مثلهم وينضم إلى زمرة العصاة معهم، وعزموا على أن يوقعوا عليه العقوبة، ثم تحكي الآيات كيف عاقبهم الله ونجى لوطا والمؤمنين.وإذا عدنا قليلا إلى ذكرياتنا الماضية وواقعنا الحالي سنجد أن هذه الحقيقة تتجلى في مظاهر متعددة قد تكون على مستوى العلاقات الإنسانية العادية والتعاملات الاجتماعية اليومية، وقد تكون على مستوى العمل والوظائف والموظفين، أوقد تكون بسيطة على مستوى التلاميذ والطلاب؛ فكثيرا ما يحدث أن تتنمر مجموعة من الطلاب الصغار أو الكبار على أحد زملائهم لأنه أصر على ألا يجاريهم في أمر ما، أو لأنه رفض أن ينصاع لأمرهم إياه بالغش أو الكذب، أو لأنه رفض المشاركة في مؤامرة ضد أحد الطلاب أو المعلمين الذين لا يحبونهم لأي سبب معقول أو غير معقول؛ فنجد أن هذا الطالب يصبح في حيرة من أمره؛ فإما أن يثبت على مبادئه ولا سيما إن كان يتصرف بقناعة من ورائها تربية سليمة وضمير حي وخوف من الله، وحينها سيبقى منبوذا وحيدا - هذا إن سلم من إيذائهم إياه نفسيا وجسديا -، وإما ألا يستطيع التحمل؛ فينضم إليهم ويصبح مثلهم، وحينذاك فقط سيسلم من إيذائهم وينال قبولهم ورضاهم، وهذا على أبسط المستويات، ويظل التحدي قائما مدى الحياة، ويظل صاحب القيم بين أمرين أحلاهما حلو وإن بدا أنه مرّ؛ فإن اختاره أرضى ربه ثم أرضى ضميره ورضي عن نفسه مهما تعرض له من التحديات، وإن لم يختره فإنه سيحظى بقبول من معه وصداقتهم وتعاونهم وكف أذاهم عنه، ولكنه سيخسر احترامه لنفسه في المقابل وسيكون قدوة سيئة لمن يفترض أن يكون قدوة لهم، ولو ذهبنا نعدد الأمثلة التي يتعرض لها الإنسان منذ نعومة أظفاره وإلى أن يموت لجمعنا مئات الصفحات في عدم تقبل الأشرار ودعاة الشر لوجود الأخيار المختلفين عنهم، وفي محاربتهم إياهم والاعتداء عليهم والاستهزاء بمبادئهم وقيمهم ودفاعهم عنها.وكذلك الأمر في جريمة حرق المصحف التي هي صورة بشعة من تلك الصور؛ فالذين يحرقون المصحف لا يريدون حرقه فقط لمجرد الحرق؛ بل يريدون أن يحرقوا ما لا يتوافق معهم من الفضائل التي يدعو إليها والقيم التي يحملها والمبادئ التي يؤصلها، يريدون حرق الكتاب الذي ينهاهم عن ارتكاب الرذائل وظلم الناس وسرقة ممتلكاتهم والتعدي عليهم وقتلهم، يريدون أن يحرقوا الكتاب الذي ينهاهم عن الكذب والغش والكسل والجبن والعجز وسوء القول والفعل وسوء الخلق والسخرية من الآخرين والاستهزاء بهم وإيذائهم، يريدون أن يحرقوا الكتاب الذي ينهاهم عن الكبر والغرور والظلم والعنصرية، يريدون أن يحرقوا الكتاب الذي يصور حقيقة الشر الذي يتبدى فيهم وفي أفعالهم، إنهم لا يريدون إحراق القرآن ولكنهم يريدون أن يحرقوا الخير الذي جاء به، ويطفئوا النور الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ليخرج الناس جميعا في كل زمان ومكان من الظلمات إلى النور، ومن العبودية لغير الله إلى الحرية المطلقة التي لا توجد ولن توجد إلا في عبودية الله عز وجل وحده لا شريك له؛ لا من الأوثان ولا من الناس ولا من الأهواء ولا من الشيطان وأحزابه ولا من أي شيء ولا من أي أحد، ويريدون أن يحرقوا المؤمنين بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب السماوية والأنبياء والرسل أجمعين، يريدون أن يحرقوا ما جاء به من الأخلاق والفضائل التي تخالف أهواءهم وتجرم رذائلهم، ولكن هيهات هيهات لما يريدون؛ فالقرآن الكريم بكل تعاليمه وأوامره ونواهيه محفوظ من لدن خير الحافظين ولو حرقوه ألف مرة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.إن حرق القرآن صورة رمزية لما يعتمل في دواخلهم من خزي المعاصي وشعور العار الذي تخلفه في نفوسهم، ومن الحقد والغل على كل من خالفهم من الصالحين وأهل الخير والطاعة لله ولرسله، ولكن القرآن الكريم سيبقى كما أراد ربنا هدى ونورا مبينا إلى يوم الدين شاءوا أم أبوا، وصدق الحق تعالى {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.