من الإدارة التقليدية إلى الفكر الاستثماري: تحول المؤسسات الحكومية
الاثنين / 9 / ربيع الأول / 1447 هـ - 14:51 - الاثنين 1 سبتمبر 2025 14:51
في قلب كل مؤسسة حكومية يكمن سؤال خفي لا يطرح بصوت عال: هل نحن جهاز إداري يكتفي بتسيير المعاملات وتحصيل الرسوم، أم نحن منصة استثمارية قادرة على خلق القيمة وجذب الشراكات؟ هذا السؤال البسيط في مظهره يختزل جوهر التحدي الذي تواجهه المؤسسات الحكومية اليوم وهي تتحرك في فضاء رؤية المملكة 2030، حيث لم يعد مقبولا أن تبقى أبوابها موصدة أمام المستثمرين أو أن تستنسخ أساليب البيروقراطية القديمة.لقد أثبتت التجارب الحديثة أن المؤسسات الحكومية يمكن أن تتحول إلى رافعة اقتصادية متى ما أدركت أن الاستثمار ليس مجرد مبالغ تحصل، بل هو شبكة من المصالح المتبادلة: مستفيد يحظى بخدمة ميسرة، ومستثمر يحقق عائدا معقولا، ومؤسسة تعزز حضورها وتستثمر أصولها بطريقة مستدامة، غير أن هذه المعادلة لا تزال تعاني من خلل في بعض الأجهزة التي تتمسك بعقلية التحصيل، فترفع الاشتراطات المالية إلى مستويات تعجيزية، وتنسى أن الاستثمار ليس صفقة قصيرة العمر، بل بيئة يجب أن تبنى لتدوم.لنأخذ مشهدا بسيطا من واقعنا: مؤسسة حكومية تستقبل آلاف المستفيدين يوميا، لكن لا يجدون أبسط الخدمات؛ كافتيريا صغيرة أو منفذا لبيع الكتب أو ماكينة صرافة آلية، أو حتى كافيه للاستراحة واحتساء القهوة، وحين يتقدم أحد المستثمرين بحماس لملء هذا الفراغ، يواجه بشروط مرهقة، ورسوم مرتفعة لا تتناسب مع حجم الخدمة، فينصرف وهو يردد: هذا مكان لا بيع فيه ولا ربح، ويبقى السؤال قائما: ما الذي يحدث بعد ذلك؟ المؤسسة تخسر، والمستفيد يحرم، والسوق يفقد فرصة نمو، والنتيجة: حلقة مفرغة من الفرص الضائعة.إن جوهر المشكلة ليس في غياب المستثمرين، بل في غياب العقلية الاستثمارية داخل إدارة المؤسسة، فالمؤسسة الحكومية التي ترى نفسها مجرد مالك لعقار أو أرض ستظل تبحث عن المستأجر الأغلى، بينما المؤسسة التي تفهم نفسها كممكن تنموي ستبحث عن الشريك الأنسب الذي يضيف قيمة حقيقية، وهذه النقلة الفكرية من العقد إلى الشراكة هي ما تحتاجه إدارات المؤسسات اليوم.ولأن الاستثمار لا ينمو في الفراغ، فإن بناء بيئة جاذبة يتطلب إعادة النظر في ثلاثة مسارات متوازية:أولا: الحوكمة المرنة التي تضع ضوابط واضحة لكنها لا تقتل الحماس ولا تغلق الباب أمام المبادرات الصغيرة.ثانيا: التسعير العادل الذي يوازن بين تكلفة الخدمة والقدرة الشرائية للمستفيد وبين الربحية الواقعية للمستثمر.ثالثا: الرؤية الاستراتيجية التي ترى أبعد من الربح المباشر، فتنظر إلى أثر الاستثمار على جودة الحياة، ورضا المستفيد، واستدامة الخدمة.إن ما يحدث حين تتبنى المؤسسات هذه المسارات ليس مجرد إصلاح إداري فقط، بل هو إعادة صياغة العلاقة بالسوق، بحيث تتحول المؤسسة إلى جسر حي يربط بين الطموح الوطني ورأس المال المحلي، وبين احتياجات المجتمع وأحلام المستثمر، وبين الرؤية التنموية والواقع اليومي، وعندها فقط يصبح الاستثمار جزءا من الهوية المؤسسية.ولعل أجمل ما في التحول الاستثماري داخل المؤسسات الحكومية أنه لا يقتصر على المشاريع الضخمة ولا على الشركات الكبرى، بل يفتح الباب أمام المستثمر الصغير أيضا، ذلك الذي يرى فرصة في خدمة بسيطة لكنها مؤثرة، وهنا تتجلى عدالة الفرص الاقتصادية في أوضح صورها: أن يجد الصغير مكانا إلى جوار الكبير، وأن تتسع أبواب المؤسسة للجميع.في النهاية، ما تحتاجه المؤسسات الحكومية ليس قوانين جديدة بقدر ما تحتاج إلى ثقافة جديدة، ثقافة تدرك أن الاستثمار ليس عبئا يضاف على كاهلها، بل هو طاقة كامنة إذا أحسن توجيهها صنعت قيمة، وإذا أسيئت إدارتها تحولت إلى عبء وضياع، نحن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نبقى أسرى عقلية تقليدية تضيع الفرص، أو نرتقي إلى عقلية الاستثمار التي تصنع المستقبل.إن المؤسسة التي تغلق أبوابها أمام المستثمرين تغلق في الحقيقة نوافذها على المستقبل، فوحدها الشراكة الحقيقية قادرة على أن تجعل من الأملاك جسورا ومن الخدمات فرصا ومن الحاضر استثمارا في الغد، ويعد هذا التحول استحقاقا وطنيا تمليه رؤية المملكة 2030، حيث يصبح الاستثمار لغة التنمية ومفتاح الاستدامة.Drmutir@