المدينة ومقاومة ثقافة التفاهة
الاحد / 8 / ربيع الأول / 1447 هـ - 04:27 - الاحد 31 أغسطس 2025 04:27
التفاهة في معجم المعاني الجامع هي نقص في الأصالة والإبداع أو القيمة، يقال هو رجل تافه أي غير متزن، قليل العقل لا قيمة لأعماله؛ ومنه يقال أسلوبه تافه أي ركيك، ولا قيمة له. لا تستغرب عندما تحتفي بعض وسائل الإعلام بشخص قال كلمة تافهة ليس لها معنى في قاموس اللغات فأصبح مشهورا بين عشية وضحاها. ولا تستغرب أن يتصدر هذا المشهور الصفوف الأولى ليلقي كلمته أمام حشد من العلماء والمثقفين؛ بل ويتم دعوته في المنصات الإعلامية وهو لم يكتب بحثا أو دراسة علمية واحدة. إذا سألت هذا المشهور كيف أصبحت مشهورا؟ هل أنت مثقف أم عالم جليل في مجالك؟ لقال لك: البداية كانت بكلمة تافهة قلتها فرددها الناس حتى أصبحت مصطلحا ثقافيا متداولا بين مجتمع الشباب ثم غدوت مشهورا. نعم، هذه هي التفاهة بعينها، حيث يميل المجتمع نحو السطحية بديلا عن الخوض في غمار القضايا العميقة، والتافهون هم أولئك الذين يهتمون بالمظهر على حساب الجوهر. هم بذاتهم الذين يأتمرون بأوامر المشهور حينما يفعل، وحيثما يقول، وأينما أراد؛ يرددون وراءه كقطيع دون أدنى تفكير.
الإشكالية أن هذا النمط الثقافي يمكن أن يتصدر المشهد العام في المدن، حيث يتم بشكل أو بآخر تبني الاتجاه نحو السطحية وتفريغ العقول من محتواها لتحل محلها تفاهة بمسميات براقة يتسابق نحوها التافهون. إنه عصر التفاهة التي باتت تهيمن على المشهد الثقافي والاجتماعي في المدن، حتى أصبح التافهون أكثر طلبا وظهورا في وسائل الإعلام. لقد استشرت هذه الظاهرة عمق تأثيرها في سلوكياتنا دون أن نشعر، مدعومة بدوافع الاعتياد، وتحفيز بعض وسائل الإعلام التي كرست النمط السطحي، واختزلت المجتمع في حيز من السخرية والفراغ الفكري الأجوف تحت إغراءات مادية. ولكن ما هو دور المدينة في مقاومة التفاهة؟
في الواقع، اتجاه المجتمع نحو التفاهات هو مؤشر جلي على غياب فاعلية القيم المحلية ليحل محلها ثقافات سلبية مهجنة وغير أصيلة. يستورد المجتمع ثقافات عابره للحدود لا تتماشى مع القيم والأنساق الاجتماعية، ويحاول تكييفها دون أدوات عملية لتصبح ثقافة تافهة خرقاء لا معنى لها. يأتي ذلك في ظل غياب استراتيجية واضحة لتعزيز القيم المحلية والتي تبقى كتراث محفوظ في الذاكرة يتم اجتراره في كل حين بالمكونات نفسها ولكن دون حراك ثقافي قادر على التخلق المتجدد في كيان يتطبع مع الواقع المعاصر ليصبح جزءا لا يتجزأ من حياة المدينة اليومية.
لا بد أن يأتي اليوم الذي تنجلي فيه هذه التفاهات ويتصاعد دخان النضال الحضري لإعادة الاعتبار للتراث العمراني في المدينة بالقيم والممارسات والسلوكيات التي يمكن أن تتجسد كنمط حياة في مدن نورانية. حينها تشرق شمس الثقافة المحلية لتكون نبراسا يشع نورا في أرض المدينة نحو سمائها.
إن دور المدينة في مقاومة ثقافة التفاهة يتجلى في صناعة ثقافة بديلة مستمدة من القيم المجتمعية الأصيلة والثقافة المحلية تتماشى مع متطلبات العصر الحديث لتصبح أنموذجا ثقافيا. صناعة الثقافة في المدن تتطلب إيمانا راسخا أن قيمنا المحلية ليست مجرد معايير أخلاقية أو تعابير مادية محفوظة في الذاكرة؛ بل نمط حياة نمارسه يوميا، وهذا يتطلب ترجمة التراث المادي وغير المادي إلى معاملات إجرائية وتشريعات مستدامة يلتزم بها الجميع بما في ذلك الرسالة السامية للغة العربية، والأدب، والفنون، والعادات والسلوكيات وأشكال التعبير الشفهي كافة التي تلهم الأجيال وتعيد أنوار الثقافة المحلية في اتجاه مقاومة ثقافة التفاهة.