الرأي

دمعة يتيمة يمسحها القضاء

عبدالله قاسم العنزي
منذ أن فتحت عينيها على الحياة، لم تعرف أُنس من أبيها سوى صورة مؤطرة في صدر المجلس، وورقة رسمية تقول إنها الوريثة الوحيدة.لم تكن تدرك معنى الميراث، لكنها سمعت همسات تتردد حولها بأن أباها كان رجلا ثريا، وقد ترك لها 'مئة مليون ريال' حين وافته المنية فجأة في حادث سير.أمها لحقت به بعد عام، ومنذ ذلك الوقت، أصبحت تحت رعاية أختها الكبرى 'أمينة'، التي آلت إليها الولاية، والسلطة، والحق في التصرف باسمها.كبرت أنس في منزل تتقاطع فيه الوجوه، وتبرد فيه العواطف. كانت ترتدي ما يعطى، وتأكل ما يترك، وتجابه كل سؤال بـ'اصمتي... لا وقت لذلك'.كانت تسمع من صديقاتها عن السفر، والهدايا، والهواتف، بينما كانت تحسب شهريتها بالريال.معلمتها 'مريم' كانت الوحيدة التي كانت تراها. تلك المرأة الهادئة التي تمسح على رأسها كلما شعرت أن أنس تغرق في الصمت.وفي أحد الأيام، بعدما لاحظت حزنها المتكرر، قالت لها بنبرة حنونة:'أشعر أن في صدرك شيئا كبيرا يا أنس... قولي لي'.أطرقت أنس رأسها، ثم تمتمت بصوت مبحوح:'أشعر أنني لا أملك شيئا، وأنني يقال عني غنية... ولا أشعر بشيء'.طلبت منها المعلمة أن تدخل بيانات حسابها البنكي، ففعلت بتردد.وحين ظهرت الشاشة... لم يظهر سوى رقم خجول: 9,845 ريالا فقط.كانت الأصفار المفقودة أبلغ من الكلام.بكت أنس... وبكت مريم، ولكن بصمت.قالت لها المعلمة بصوت هادئ:'يا ابنتي، هذه دمعتك، لكن ثقي... هناك من يمسح الدمع بقوة النظام. اذهبي للمحكمة، فالعدل لا يتأخر، وإن بدا صامتا'.وفي ردهة المحكمة، وقفت أنس تحمل ملفا أزرق.استدعى القاضي الأخت، التي حضرت بكامل وقارها وثقتها، وتحدثت كثيرا:'أنا التي كفلتها، وأنا التي أنفقت... لم آخذ شيئا لي!'لكن المحكمة لا تصدق بالعبارات، بل بالأدلة.فأمر القاضي بتكليف خبير محاسبي لمراجعة الحسابات والتحويلات والتصرفات.وبعد أسابيع، عاد التقرير:عشرات العمليات البنكية باسم الأخت: استثمارات، تحويلات خارجية، عقارات، مشتريات لا تحصى.لا أثر لمصاريف الطفلة إلا في النزر القليل.أمسك القاضي الملف، وقرأ في صمته قرارا، ثم قال:'هذه الأموال ليست فضلا، بل أمانة. والولاية لا تخولك إلا بما فيه مصلحة القاصر.وقد ثبت للمحكمة أن المال استهلك بلا حق، وتقرر: رفع الولاية، إعادة الأموال، وإحالة الواقعة للنيابة'.في تلك اللحظة، لم تشعر أنس بالانتصار... بل بشيء أكبر:أنها لأول مرة، رآها أحد، وصدق دمعتها أحد.ختاما: ليست كل دمعة تجفف بالمنديل... بعض الدموع لا يزيلها إلا حكم قاضٍ، وبعض الأمان لا يسترد إلا من منصة العدالة.expert_55@