الجامعات وصناعة المناعة الفكرية: نحو رأس مال اجتماعي آمن
الثلاثاء / 3 / ربيع الأول / 1447 هـ - 21:12 - الثلاثاء 26 أغسطس 2025 21:12
في عالم يموج بالتحولات العميقة والتغيرات المتسارعة، لم تعد الجامعات كيانات محايدة تكتفي بتعليم المقررات وتخريج الكفاءات، بل أصبحت أحد أهم الأعمدة التي يقوم عليها استقرار الدول وبناء مستقبلها، إن الجامعة اليوم أشبه بقلب نابض يضخ الحياة في شرايين المجتمع، وعقل جمعي يعيد تشكيل الوعي ويمنحه القدرة على التجدد، فهي فضاء للعلم، ومختبر للقيم، وساحة يلتقي فيها الانتماء الوطني بالانفتاح العالمي.
إن المفهوم الذي يتجلى في قلب هذه المعاني السامية هو المناعة الفكرية، حيث لم يعد الحديث عنها ترفا نظريا أو مصطلحا أكاديميا، بل غدت ضرورة وجودية تستند إليها الدول للحفاظ على تماسكها وأمنها الاجتماعي، فالمناعة الفكرية ليست جدارا عازلا يقام في وجه الأفكار، بل قدرة داخلية على التمييز والتحليل والمساءلة؛ هي مرونة ذهنية تجعل العقل أكثر حصانة في مواجهة الانحرافات الفكرية، وأكثر قدرة على استيعاب التنوع دون الوقوع في فخ التطرف أو التشظي القيمي، ومن هذا المنطلق، تصبح الجامعات مصانع حقيقية للوعي، تؤسس لجيل قادر على مواجهة تحديات الحاضر وصياغة ملامح المستقبل.
لقد جاء مؤتمر مسؤولية الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري، الذي تنظمه جامعة أم القرى حاليا، ليؤكد هذا الدور بوضوح لافت، حيث لا يعد المؤتمر حدثا أكاديميا عابرا، بل منصة وطنية كبرى سلطت الضوء على مسؤولية الجامعات في صناعة الانتماء وصيانة الهوية، كما أن انعقاده في مكة المكرمة منح التجربة بعدا رمزيا استثنائيا؛ ففي المكان الذي تهفو إليه الأرواح وتستقر فيه القيم الدينية العميقة، اجتمعت الرسالة العلمية مع الرسالة الحضارية، لتشكل مشهدا يختزل جوهر الفكرة: أن العلم والقيم معا هما السياج الحقيقي للأمن الوطني.
إن الجامعات السعودية وهي تحتضن مئات الآلاف من الطلاب والطالبات، تمثل أكبر حاضنة شبابية في الوطن، وهذا يجعل أثرها يتجاوز جدران القاعات إلى عمق المجتمع كله، فالطالب الجامعي لم يعد مجرد متلقٍ للمعرفة، بل مشروع وعي، يحمل داخله بذور النقد والقدرة على تحويل القيم الوطنية إلى سلوك يومي، والأستاذ الجامعي لم يعد موظفا يؤدي واجباته الروتينية، بل رمز للقدوة الفكرية والسلوكية، ونموذج حي يغرس النزاهة والالتزام، أما الجامعة ذاتها، فهي لم تعد مباني من حجر، بل كيان معرفي سيادي، يشارك في حماية الداخل كما تحمي المؤسسات الأمنية الحدود.
ويتقاطع هذا الدور بعمق مع رؤية المملكة 2030 التي جعلت الإنسان في قلب مشروعها التنموي، فالجامعة تسهم في تحسين جودة الحياة عبر بناء بيئات تعليمية وثقافية متوازنة، وتعزز الأمن الاجتماعي من خلال تحصين العقول ضد الفكر المنحرف، وتدعم الاقتصاد الوطني بما تقدمه من ابتكارات وريادة أعمال وكفاءات مؤهلة، وتحافظ على الهوية الوطنية من خلال الجمع بين الأصالة والانفتاح المسؤول، إن هذه الأبعاد مجتمعة تجعل من الجامعات جسورا تربط بين التنمية المادية والعمق القيمي، وهو ما تحتاجه أي نهضة لكي تكون مستدامة.
وإذا ألقينا نظرة على تجارب بعض الدول، ندرك بجلاء أن الجامعات كانت حجر الزاوية في مواجهة تحديات مشابهة، فسنغافورة وظفت التعليم لتوحيد مجتمعها متعدد الأعراق، وكوريا الجنوبية أعادت صياغة هويتها بعد الحرب من خلال الجامعات، وماليزيا جعلت من التعليم منصة لتحقيق التوازن بين التنوع الديني والثقافي، هذه التجارب توضح أن التعليم الجامعي لم يكن في أي وقت من الأوقات مجرد أداة للتوظيف، بل هو حصن للقيم ودرع للأمن الاجتماعي.
أما في المملكة، فإن التحولات الكبرى التي تقودها رؤية 2030 تمنح الجامعات دورا مضاعفا، فالنهضة الاقتصادية والعمرانية لا يمكن أن تكتمل دون قاعدة فكرية قيمية تضمن الاستدامة، ومن هنا، تصبح الجامعات مؤسسات حيوية لا تكتفي بتعليم المعارف، بل تصوغ الوعي الوطني، وتوجه الطاقات الشبابية نحو الإبداع، وتؤسس لخطاب إنساني رصين يحمي الهوية من الداخل ويمنحها القدرة على التفاعل مع العالم بثقة ووعي.
إن مسؤولية الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري هي في جوهرها مسؤولية عن بناء مستقبل الوطن، فهي ليست مهمة تربوية فحسب، بل مهمة وطنية وأمنية وتنموية في آن واحد، من خلال صناعة جيل واعٍ، وأساتذة قدوات، وبيئة معرفية قائمة على قيم راسخة، يتشكل رأس المال الاجتماعي الآمن الذي يضمن للمملكة استقرارها ومكانتها، ويجعلها أكثر استعدادا لمواجهة التحديات المستقبلية، وبذلك فإن الاستثمار في الوعي هو الاستثمار الأبعد أثرا، لأنه استثمار يحمي الأرض والإنسان، ويصون المستقبل جيلا بعد جيل.