الرأي

بين الورقة الموقعة والجهد الخفي

فؤاد بنجابي


دائما ما يتردد في المجالس العامة، أو حتى في تعليقات الناس العابرة، وأحيانا بين بعض الزملاء - للأسف - أن عمل المحامي لا يتجاوز كونه ورقة تكتب وتوقع، وأن الأمر لا يحتاج كل تلك التكلفة التي يعرف بها المحامون. يقول قائلهم «كلها ورقة! لماذا هذا المبلغ؟» وكأن الورقة تختصر كل الجهد، أو كأن التوقيع هو الغاية وليس ثمرة طريق طويل من التفكير والبحث والتحليل والحرص الشديد... إن هذه النظرة القاصرة لعمل المحامي ليست غريبة في مجتمعات كثيرة، فالناس بطبعهم لا يرون إلا ما يظهر للعين، ويغيب عنهم ما وراء الكواليس... وفي مهنة المحاماة، الغائب أكثر بكثير من الحاضر، والمجهود الخفي أكبر من أي أثر مادي يمكن أن يقاس أو يوصف.

إن الناس يرون ورقة... لكنهم لا يرون الساعات التي قضاها المحامي في قراءة النظام، ولا الأيام التي صرفها في فهم السوابق القضائية، ولا اللحظات التي أمضاها في التفكير بأدق المفردات ليصيغ فقرة واحدة تكون كفيلة بتحقيق العدالة أو دفع الضرر أو إثبات الحق... كل كلمة في تلك الورقة هي نتاج مئات التجارب، وخلف كل توقيع مسؤولية ضخمة قد تغير مصير إنسان. المحامي لا يبيع ورقة، بل يقدم علمه، ويؤجر على رأيه، ويتحمل وزر كل خطأ أو تقصير، ولو كان بسيطا. فهو لا يوقع عبثا، ولا يكتب بلا دراية، ولا يقدم أوراقه إلا بعد أن يمر عليها مرات ومرات، لأنه يدرك أن الخطأ قد يكون ثمنه فقدان حق أو ضياع فرصة أو حتى حرمان إنسان من حريته. قد يبدو لمن لا يعرف المهنة أن المحامي يعمل ساعة أو اثنتين، أو أنه كتب ما كتب في جلسة عابرة، والحقيقة أن التحضير لأي إجراء قانوني أو رأي حقوقي قد يستغرق أياما، وقد يتطلب الرجوع إلى مصادر متعددة، والبحث عن تفاصيل دقيقة، والتأكد من صحة الوقائع وسلامة الأدلة وترابط السياق القانوني... إن المحامي يعمل على الورقة قبل أن تخرج بوقت طويل، يفكر قبل أن يكتب، ويحتاط قبل أن يصرح، ويقيس الكلمة بميزان أدق من ميزان الذهب، لا مجازا، بل حقيقة! لأن كل كلمة منه قد تفهم في سياق مختلف وتحمل على معنى لم يقصده، إن تكلفة المحامي لا تقاس بعدد الأوراق، بل تقاس بما يمثله وقته، وما يحتفظ به من علم وخبرة وتجربة، وما يتحمله من ضغط نفسي ومهني وهو يعالج قضايا قد تكون حساسة، شخصية، مليئة بالتعقيدات، إنه يؤجر مقابل التفكير العميق، لا الكتابة السريعة، مقابل الرؤية القانونية، لا الصياغة وحدها، مقابل تقديم الحل قبل أن يولد النزاع، لا فقط عند اشتداده، الناس تدفع أثمانا باهظة لسلع تستهلك في لحظات، ولا يترددون في دفع الآلاف على أجهزة الكترونية أو موائد طعام، ثم يتعجبون من أجر محامٍ قضى سنوات من عمره في التعليم والتدريب، ولا يزال يومه يبدأ بالقراءة وينتهي بالاطلاع، لأن المهنة لا تحتمل الركود أو التكرار، وكل قضية هي عالم جديد لا يشبه ما قبله.

إن الورقة التي يقدمها المحامي في النهاية ليست «المنتج» الحقيقي، بل هي الوجه الظاهر فقط... هي بمثابة الثمرة التي ظهرت بعد عناية طويلة بالشجرة، سقيا، ورعاية، واهتماما بالتفاصيل، لا أحد يحكم على المزارع بثمن التفاحة، بل ينظر لجهده طوال الموسم، فكيف بمن يعمل في مهنة لا تعرف المواسم، ولا تتوقف؟! التوقيع الأخير على الورقة ليس نهاية العمل، بل هو أشبه بالإقرار بأن كل ما كتب قد خضع للفحص والتدقيق، وأن ما كتب لا يمثل وجهة نظر عابرة، بل خلاصة موقف قانوني واضح مدروس بعناية، ومبني على أسس راسخة، ومن الظلم أن يختزل المحامي في صورة كاتب، أو ينظر إليه كمجرد شخص يعد المستندات فقط!

المحامي يفكر، ويوازن، وينذر، ويحتاط، ويخوض معارك فكرية وواقعية في آن معا، أحيانا يكون دوره في تفادي الخصومة أعظم من دوره في إدارتها، وأحيانا يكون رأيه القانوني الذي يقدم في استشارة بسيطة هو السبب في إنقاذ مؤسسة كاملة من الوقوع في خطأ جسيم، الفرق بين المحامي وغير المختص ليس فقط في اللغة القانونية أو معرفة المواد، بل في القدرة على الربط بين الوقائع والنصوص، بين الواقع والنظرية، بين ما ينبغي أن يكون وما هو ممكن، وهذا الربط لا يعلَّم في الكتب فقط، بل يكتسب بالتجربة والممارسة والخطأ والتصويب، الناس تتعامل مع الورقة كأنها السلعة، بينما الورقة هي مجرد أثر من آثار العقل القانوني. هي كالمعمار الذي يبهر الجميع بجماله، بينما لا أحد يرى الأساسات ولا الحفر ولا الخطط الهندسية المعقدة. المحامي لا يبهر بالزينة، بل يقنع بالمنطق، ويؤثر بالدقة، ويراعي النظام، ويحمل دائما ميزان العدل أمام عينيه، حتى لو لم يره غيره.

ومع التطور التكنولوجي والتحول الرقمي، بدأت حتى تلك الورقة تختفي شيئا فشيئا، وأصبح التوقيع رقميا، والمستند الكترونيا، والتواصل عبر البريد والمنصات الرسمية. لكن المفارقة أن الجهد لم ينقص، بل تضاعف! السرعة التي يعمل بها العالم اليوم تستوجب من المحامي أن يكون حاضرا ذهنيا على مدار الساعة، متابعا للتحديثات القانونية، مطلعا على الأنظمة المستجدة، مستعدا للتعامل مع ملفات رقمية متداخلة، وتحليلات قانونية أكثر تعقيدا. فقد تقلصت المسافة بين الحدث والإجراء، وتقلصت معها فرص التمهل أو التأجيل، وزادت الحاجة إلى دقة أكبر واستجابة أسرع، ولنفترض للحظة أننا تعاملنا مع مهنة المحاماة من منظور مادي بحت، مجرد من القيمة المعنوية والخبرة والتأثير، وتعاملنا مع وقت المحامي كأي وقت مهني آخر يمكن تسعيره بالدقيقة أو الساعة، فكم ستكون النتيجة؟ إذا اعتبرنا أن المحامي يقضي ثلاث أو أربع ساعات في دراسة القضية، وساعات أخرى في التحليل، والتواصل، والصياغة، والتدقيق، واعتبرنا أن كل ساعة من وقته تساوي قيمة محددة مثلما تفعل معظم المهن التخصصية، فسنجد أن التكلفة النهائية التي تدفع للمحامي لا تتجاوز أجر وقته الفعلي! لا مبالغة فيها، ولا تضخيم. كل ما في الأمر أن الناس لا تحسب الأمر بهذه الطريقة، لأنها لا ترى الوقت، ولا ترى ما يجري خلف الكواليس، بل ترى فقط الورقة، فتظن أن أجرها يجب أن يقاس بالحبر لا بالجهد.

وهكذا، فإن نظرة المجتمع للمحاماة بحاجة إلى تصحيح، ليست المسألة ورقة وتوقيعا، بل وقت وجهد، علم ومسؤولية، دقة وأمانة، ومهنة قائمة على احترام الزمن والمعرفة والتخصص. كل توقيع يضعه المحامي هو شهادة على كل ما بذله قبلها، وكل ورقة يقدمها هي نتاج ساعات طويلة من البحث والانتباه والتدقيق، ولا يمكن أبدا مقارنتها بأي منتج آخر، لأنك ببساطة لا تشتري ورقة، بل تشتري راحة بالك، وضمانة حقك، وصوتك الذي يعرف كيف يتكلم بلغة النظام.