الرأي

لماذا لا نجعل أغسطس سعوديا؟

مطير سعيد الزهراني


في إيطاليا وفرنسا، يتباطأ إيقاع المدن الكبرى مع حلول أغسطس، فتغلق المحلات، وتغدو الشوارع صامتة، بينما تتحرك قوافل الناس إلى الداخل، إلى قراهم الجبلية أو بلداتهم الصغيرة، هناك حيث تنبعث الذاكرة الثقافية، يحتفلون بالريف وبالتراث وبالمكان الذي صنع هويتهم الأولى، هذه الممارسة ليست ترفا صيفيا عابرا، بل فعل اجتماعي وثقافي يعيد للأفراد توازنهم، ويؤكد ما يسميه علماء الاجتماع: رأس المال الثقافي؛ إذ إن الإنسان لا يكتفي بالعيش في حاضره المديني، بل يحتاج أن يتغذى على مخزونه الرمزي كي يظل متوازنا، وهنا يتولد السؤال: لماذا لا نجعل أغسطس سعوديا؟

إن السياحة الداخلية في جوهرها ليست مجرد حركة اقتصادية، بل هي وعي بالهوية وتجديد للانتماء، فحين تعود المجتمعات إلى قراها، فإنها تعيد إنتاج ذاكرتها، وتربط الأجيال بسلسلة متواصلة من المكان والرموز. وبورديو- عالم الاجتماع الفرنسي الأكثر تأثيرا - حين تحدث عن الثقافة المتوارثة، أشار إلى قدرتها على إعادة تشكيل الإنسان جيلا بعد جيل، وحين تتحول القرى إلى وجهات سنوية، فإنها تصبح مدارس للانتماء وفضاءات لحفظ الهوية.

الأرقام الأوروبية تكشف أن هذه الممارسة ليست استثناء، ففي إيطاليا مثلا سجل في صيف 2024 أكثر من 211 مليون ليلة سياحية بين يونيو وأغسطس، فيما توقعت وكالة - ENIT - أن يشهد صيف 2025 ما يزيد على 8 ملايين رحلة داخلية، بينما تتركز 65% من ليالي الإقامة السنوية في شهري يوليو وأغسطس، وفي فرنسا أيضا، ظل أغسطس الشهر الذي يشهد أعلى طلب على البيوت الريفية والمصايف الداخلية بنسبة تتجاوز 40% مقارنة ببقية أشهر العام، هذه الأرقام تقول بوضوح إن العودة إلى الداخل ليست بديلا أقل قيمة من السفر الخارجي، بل هي ركيزة في التوازن الاقتصادي والاجتماعي.

وإذا نظرنا إلى السياحة في وطننا العظيم، فإن الصورة أكثر ثراء، فالمملكة استقبلت عام 2024 أكثر من 116 مليون سائح محلي ودولي، أنفقوا ما يقارب 284 مليار ريال، وقد سجل السياح المحليون 86.2 مليون زيارة، أنفقوا خلالها أكثر من 115.3 مليار ريال، وأمضوا ما يزيد على 538 مليون ليلة مبيت، وهذه الأرقام تعني أن الداخل السعودي ليس أقل جاذبية، بل هو في ذاته قوة اقتصادية وسياحية ضخمة، وإن كانت لم تستثمر بعد بما يكفي في بناء هوية موسمية واضحة.

الأهم من ذلك أن البيانات الشهرية الرسمية تكشف أن أغسطس يمثل ذروة حقيقية في السياحة الداخلية، فقد استقطب وحده 6.45 ملايين سائح محلي، أنفقوا ما يقارب 8.70 مليارات ريال، وهذا الرقم يضع أغسطس في موقع مثالي ليكون موسما وطنيا مهيأ للانطلاق، ليس فقط لارتباطه بالإجازة الصيفية، بل لأنه بالفعل الشهر الذي يشهد اندفاع العائلات إلى الداخل السعودي في أعلى معدلاته، ومن هنا يصبح السؤال أكثر إلحاحا: إذا كان أغسطس بطبيعته موسما للداخل، فلماذا لا نحوله إلى مشروع وطني واع يحمل هوية ثقافية واقتصادية متكاملة؟

إن جعل أغسطس سعوديا سيحقق آثارا مركبة على أكثر من مستوى، فعلى مستوى الأسرة، سيصبح فضاء للتلاحم العائلي وتجربة مشتركة بين الأجيال، بعيدا عن أنماط الترفيه المغلقة، وعلى مستوى الاقتصاد، سيعيد توزيع التنمية نحو المدن الصغيرة والقرى، ويخلق وظائف جديدة، وينشط الحرف اليدوية، ويضخ الاستثمارات في مناطق لم تكن ضمن الوجهات التقليدية، وعلى مستوى الهوية، سيمنح المواطن فرصة لاكتشاف وطنه بوصفه ذاكرة حية، لا مجرد أماكن سياحية متفرقة، أما على المستوى الثقافي، فسوف يتحول التراث اللامادي من شعر وفلكلور وأمثال وعادات إلى مورد سياحي يتكامل مع الاقتصاد بقدر ما يعزز القيم والهوية.

غير أن التجارب الأوروبية تذكرنا بأن الفكرة، مهما كانت جاذبة، تحتاج إلى تخطيط متوازن، فمدن مثل فينيسيا أو بحيرة كومو تعاني من الاكتظاظ السياحي وارتفاع الأسعار وهجرة السكان الأصليين، ومن ثم فإن تحويل أغسطس إلى موسم سعودي لا بد أن يراعي البنية التحتية، والخدمات، والتوازن بين استيعاب الزوار والحفاظ على خصوصية المكان وأهله، وإن نجاح الفكرة مرتبط بوعي إداري وتنظيمي يجعل من الداخل فضاء مستداما لا عبئا على ساكنيه.

وهكذا يتضح أن جعل أغسطس سعوديا ليس مجرد اقتراح سياحي، بل مشروع وطني يربط الهوية بالاقتصاد، ويحول الداخل من خيار ثانوي إلى موسم أول يوازن بين التنمية والذاكرة، وهو أيضا خطوة منسجمة مع رؤية 2030 التي جعلت من السياحة الثقافية والداخلية ركيزة من ركائز التنمية المستدامة، وإن الدعوة في النهاية ليست للتأمل فقط، بل للفعل: لم لا نجعل أغسطس سعوديا؟ لنحوله من عطلة صيفية إلى موسم وطني للوعي الجمعي، يفتح لنا أبواب الداخل، ويعيد وصلنا بذواتنا وبوطننا العظيم.