مفاهيم في إدارة الأزمات
الاحد / 1 / ربيع الأول / 1447 هـ - 22:52 - الاحد 24 أغسطس 2025 22:52
عندما تطلع على مفردات المراجع العالمية والمحلية في جانب إدارة الأزمات والتي في ظني ما زالت غضة طرية في سبر المفاهيم بشكل حكيم، وأقصد بها من حيث البساطة والعمق والشمولية، ستجد أن هذا الجانب العلمي والمهني ما زالت مساحة المعارف والتطبيقات فيه بحاجة إلى مزيد من التراكم الزمني والحوكمي حتى ينضج على الجانب المعرفي، ويكفي شاهدا في ذلك بأن الآيزو 22361 أول نسخة صدرت لها في عام أكتوبر 2022 أي قبل ثلاث سنوات من الآن.
وهذا يؤكد مدى حداثة الإجراءات والتعليمات المتعلقة بهذا الجانب وكذلك الاجتهادات ذات التطبيقات الواسعة والمختلفة من منظمة إلى أخرى، ولا ضير في ذلك فهذه سنة الكون في تطور العلوم ومخرجاتها التطبيقية، وأحببت هنا أن أكتب عن تسعة مفاهيم ذات أهمية بالغة لم تتطرق لها المراجع بشكل يروي الظمآن أو يشفي العليل، وأعتقد أنها من التراتيب الأبجدية في هذا الجانب العلمي والتطبيقي:
أولا: إذا كانت الحوكمة ضرورة لا غنى عنها في الظروف التشغيلية الاعتيادية للمنظمات والمؤسسات، فإنها في أوقات الأزمات تصبح أوجب وألزم، لما تحمله تلك الأوقات من سمات استثنائية كالارتباك الإداري (Panic) والذي قد يخلط الحابل بالنابل في المسؤوليات ويضخم مساحة الاجتهادات الفردية غير المنضبطة. مما يزيد من حجم الخسائر ويزيد من الطين بلة.
ثانيا: النصية في الخطط وليس في التطبيقات، وأقصد بذلك أن جميع الخطط المتعلقة بالاستجابة للطوارئ والأزمات هي خطط مسبقة لسيناريوهات مخاطر متوقعة، والتاريخ والتجارب كثيرا ما تحكينا عن أن السيناريوهات الواقعية قد يدخل فيها مدخلات واسعة ليست كتلك التي أخذت في اعتبار التوقعات التخطيطية، لذلك ليس من الحكمة في شيء أن تكون صفة النصية في الخطط تكون أيضا صفة عابرة إلى التطبيقات، التفكير الإبداعي والخارج عن الصندوق استنادا إلى المبادئ لا إلى النصوص الحرفية، وهو ما أثبت التاريخ أنه العامل الحاسم في احتواء الأزمات وتقليل الخسائر.
ثالثا: الوحدة التنظيمية لإدارة الأزمات في المنظمة لها ثلاثة مستويات من الاهتمام الحوكمي، في المستوى الأول تنظيمي ورقابي لجميع أنواع الحوادث ما ظهر منها وما بطن، والمستوى الثاني تنظيم صناعة القرار بشكل محوكم عند حلول الأزمة، والمستوى الثالث التطوير المستمر الذي يظهر في أعقاب الأحداث أو التمارين المتعلقة بالحوادث، وجميع هذه المستويات لا يمكن لها أن تأخذ حظها من التطبيقات الواسعة والحاسمة ما لم تأخذ مكانها من الإعراب التنظيمي بشكل صحيح (Enforcement).
رابعا: قيمة التواصل تكاد تكون هي القيمة المهيمنة لمن يعمل في هذا الجانب الوظيفي لأهميته التشغيلية عند وقوع الأزمات، فالعلاقات الجيدة والتواصل الشفاف بالتأكيد سيكونان حجر زاوية غير مرئي لنجاح إدارة الأزمة، التحدي هنا أنه في أوقات الرخاء التشغيلي هناك عقبة تواصل مع المعنيين في الجوانب التشغيلية بإدارة الأزمات، ويرجع ذلك إلى «برمجة عقلية» مسبقة مرتبطة بالتخوف من مواجهة الأزمات. وما زلت أتذكر تلك العبارة الخالدة التي تعبر عن هذا التخوف من أحد الزملاء الرائعين الذي يقول حسب مفردته: كل رسالة أو اتصال من قبل المعنيين بإدارة الأزمات نردد قبلها حوالينا ولا علينا.
خامسا: تختلف كل من المدرسة الأمريكية (NIST) وملحقاتها من (ICS - FEMA) والمدرسة البريطانية على رأسها (BSI) في مقاربتها لإدارة الأزمات. فالمدرسة الأمريكية تعتبر إدارة الأزمات هي القمة الاستراتيجية لإدارة الحوادث، حيث يتم توجيه الجهود نحو الاستجابة الفورية للحدث الكبير. في المقابل، تضع المدرسة البريطانية إدارة الأزمات كجزء أساسي ومتكامل من دورة استمرارية الأعمال، حيث لا يتم النظر إليها بمعزل عن التخطيط لاستمرارية عمل المنظمة ومرونتها بشكل عام. وفي النهاية، لا يوجد نموذج واحد يناسب الجميع؛ إذ يعتمد النجاح في هذا المجال على القدرة على تكييف المبادئ من كلتا المدرستين لتناسب الاحتياجات الفريدة لكل منظمة.
سادسا: الأزمة تعلن عن نفسها، قد تضع مستويات لشدة الحوادث معينة لتفعيل فرق الطوارئ المختلفة ولكن التجارب والمشاهد التاريخية أثبتت أن الأزمات تعلن عن نفسها دون الحاجة الماسة لتلك المستويات، فبمجرد وجود حادث بدأ يأخذ أثره في أكثر من جانب في المنظمة، إلا وستجد التأثير أخذ مساره نحو التفعيلات لفرق الطوارئ المختلفة.
سابعا: كلما كان العمل أكثر جودة وحوكمة ورقابة على الحوادث في المستوى التشغيلي، بالتأكيد سيقلل بشكل ملحوظ عدد الأزمات التي تتصاعد إلى مستويات عليا. لذلك، يجب أن يكون العمل الاستباقي في هذا الجانب هو محور الاهتمام الأكبر للمنظمات، باعتباره خط الدفاع الأول والأكثر فعالية ضد الأزمات.
ثامنا: نجاح إدارة الأزمات يعتمد بشكل حاسم على وضوح الأدوار. فالقائد الاستراتيجي للأزمة يجب ألا ينشغل بالمهام التكتيكية، كما أن القائد التكتيكي لا ينبغي أن يتدخل في المهام التشغيلية. فكل مستوى له مهمته الفريدة التي لا يمكن لغيره القيام بها بالفعالية نفسها. هذا الفصل الواضح يضمن استجابة سريعة ومنسقة ومتكاملة، ويمنع الفوضى ويعزز من كفاءة جهود الاستجابة الكلية.
تاسعا: كثيرة المنظمات التي تجدها بعد حدوث أزمة تقوم بتغييرات جذرية وحاسمة وتفتح بوابة خزنة المال على مصراعيها من أجل أي جهد في سبيل تطوير منظومة إدارة الأزمات، والمنظمة الحكيمة لا ترى الأزمات كأحداث منفردة، بل كحلقات في سلسلة من الدروس المستمرة. فهي لا تنتظر أن تفرض عليها الأزمة التغيير الجذري، بل تقرأ المستقبل في مرآة الماضي، مستمدة قوتها من استيعاب تجاربها التاريخية وتجارب الآخرين. بهذا، تتكيف وتتطور بشكل استباقي ومدروس، بدلا من أن تكون مجرد نتاج للظروف القاسية التي تفرضها الأزمات. فالنجاح الحقيقي يكمن في بناء قلعة مترسة من الاحتياطات والتعلم المستمر، لا في مجرد إطفاء الحرائق بعد اشتعالها.
والله أعلم.