حين يتحرر الطفل من قفص الحماية إلى أفق التجربة العاطفية
الأربعاء / 26 / صفر / 1447 هـ - 06:33 - الأربعاء 20 أغسطس 2025 06:33
أثناء تجمع عائلي في زاوية غرفة المعيشة، كان طفل في الرابعة من عمره يحاول تركيب قطع مكعبات ملونة. يمد يده ليضع القطعة الأخيرة، لكنها تسقط من بين أصابعه الصغيرة، فيتجمد للحظة، قبل أن تسرع أمه لتلتقطها، وتدفعها في مكانها وهي تبتسم له، تراقب الخادمة المشهد لتتأكد أن اللعبة لن تنقلب، وتتدخل أخته الكبرى أحيانا لتعيد ترتيب القطع حتى لا تتداعى. كل مرة يوشك أن يخطئ، تمتد أيادٍ كثيرة لتصحح قبل أن يقع الخطأ أصلا. كان العالم من حوله مثل فقاعة شفافة؛ يرى من خلالها الآخرين يجربون، ويتعثرون، ويتعلمون، بينما هو يسير في طريق معبد بلا حفر.لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن الطرق الملساء لا تصنع أقداما قوية. مع مرور الوقت، صار الطفل يتردد قبل أن يخطو خطوة جديدة، يخشى المحاولة خشية الفشل، وينتظر دائما يدا تمسك به قبل أن يسقط. لم يتعلم كيف يتعامل مع الغضب حين يخسر، ولا كيف يهدئ نفسه بعد البكاء، لأنه لم يمنح فرصة ليختبر مشاعر الهزيمة أو النقصان.الدراسات الحديثة تؤكد هذه الحقيقة بوضوح. دراسة نشرت في مجلة Child Development عام 2021 أظهرت أن الأطفال الذين تربوا في بيئات مفرطة الحماية أظهروا مستويات أقل من ضبط النفس والقدرة على إدارة المشاعر مقارنة بأقرانهم الذين أتيحت لهم فرص لمواجهة التحديات والفشل المبكر. كذلك، أظهرت دراسة من جامعة هارفارد بعنوان The Science of Resilience عام 2022 أن التعرض المبكر للتجارب التي تتطلب المحاولة والخطأ يساعد في تطوير مهارات حل المشكلات والمرونة العاطفية، ويقلل من القلق المرتبط بالفشل في السنوات اللاحقة. حتى تقرير حديث من UNICEF عام 2023 أكد أن السماح للأطفال بتجربة الإحباط بشكل آمن، مع دعم عاطفي مناسب، يعزز مهارات التعاطف وضبط النفس، ويؤسس لذكاء عاطفي متين يساعدهم على التعامل مع الضغوط الاجتماعية والمواقف الصعبة مستقبلا.في نظر الباحثين، هذه الحماية المفرطة تشبه القفص الذهبي: جميل المظهر، لكنه يمنع الجناحين من التمرين على الطيران. فالذكاء العاطفي لا يتشكل في اللحظات التي نتلقى فيها الإجابات جاهزة، بل في تلك التي نبحث فيها عن الحل بأنفسنا، ونتعامل مع الإحباط، ونحاول مرة بعد أخرى حتى تنجح المحاولة.في النهاية، الذكاء العاطفي ليس مهارة ثانوية يمكن إضافتها لاحقا، بل هو الأساس المتين الذي يبني الطفل به حياته. كل لحظة نصغي فيها لمشاعره، كل مرة نمنحه فرصة لمواجهة الفشل الصغير، كل مرة نعترف بتجربته ونجاحه أو إخفاقه، نحن نضع لبنة جديدة في جسر يمتد إلى مستقبله. ربما بعد عشرين أو ثلاثين عاما، حين يواجه تحديا كبيرا في حياته، لن تكون القوة التي يحتاجها مجرد معرفة أو مهارة تقنية، بل ذلك الفهم العميق لمشاعره وقدرته على إدارتها، والقوة الهادئة التي منحها له عالم لم يحمه من التجربة، بل سمح له بأن يختبرها ويكبر معها.