الرأي

رحلة الحروف الأولى: تحدي المعلم في فتح قلوب المبتدئين للغة

عبير حيدر
تخيل أنك تدخل إلى صف مليء بوجوه من كل لون ولهجة: طالبة من اليابان، شاب من البرازيل، أخرى من تركيا، وآخر من السنغال. العيون تراقبك بترقب، بعضها بخوف، وبعضها بفضول، وبعضها بشغف لا يعرف من أين يبدأ. أنت بالنسبة لهم أول نافذة على عالم اللغة العربية، وأول صوت ينطق بها أمامهم. في تلك اللحظة، إما أن تفتح لهم باب حب اللغة... أو تغلقه للأبد.كثيرون يظنون أن تعليم العربية للناطقين بغيرها في الفصول المبتدئة أمر سهل، وأنه لا يحتاج إلا إلى القليل من المهارة: بعض المفردات، الحروف، وربما أنشطة بسيطة. لكن الحقيقة التي يعرفها من جرب هذه المرحلة، أنها أصعب المراحل وأكثرها حساسية.التحدي الخفي وراء تدريس المبتدئين:في هذه المرحلة، غالبا ما يكون الطلاب من جنسيات وثقافات متعددة، ولا يعرف المعلم لغاتهم. يواجه الطالب خوفا مضاعفا: فهو يبدأ تعلم لغة تعد من أصعب لغات العالم. ووفق تصنيف ( Foreign Service Institute FSI)، تحتاج العربية إلى نحو 2200 ساعة دراسة ليصل المتعلم إلى الإتقان، وهو زمن أطول بكثير مقارنة بمعظم اللغات الأخرى.هذا الخوف من اللغة الجديدة، مع قلة القدرة على التعبير، يولد ما يعرف بـlanguage ego أو «أنانية اللغة»، حيث يشعر المتعلم أن لغته الأم جزء من هويته، وأن دخوله في لغة أخرى يهدد هذه الهوية أو يكشف ضعفه. بعض الطلاب يختار الصمت حتى لا يخطئ، وآخرون يندفعون بالكلام حتى لو كان مليئا بالأخطاء، فقط ليثبتوا قدرتهم على المشاركة.هنا يظهر دور المعلم الحقيقي: ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل طيار يقود رحلة سفر لراكب لأول مرة. إما أن يجعل التجربة مشوقة وممتعة، فيرغب الراكب في السفر مرة أخرى، أو أن يكون قليل الخبرة، فيخيفه ويجعله يرفض تكرارها.المعلم الناجح للمبتدئين هو من يجمع بين الصبر الطويل، والقدرة على تبسيط المعلومة، والمرونة في تغيير الخطة عند الحاجة. يعرف كيف يستخدم التقنيات الحديثة والألعاب التعليمية لجعل الفصل مكانا ممتعا، وكيف يشجع الطالب على تخطي حاجز الخوف من الخطأ. وهو قبل كل شيء قادر على تمثيل ثقافته العربية والإسلامية بصورة جذابة تحفز الفضول والاحترام.المعلم في الفصول المبتدئة أشبه بمايسترو يقود أوركسترا لم تعزف معا من قبل. عليه أن يخلق انسجاما بين أصوات مختلفة، وأن يجعل النغم الأول جميلا بما يكفي ليدفعهم لمواصلة العزف. كما أنه سفير ثقافته العربية والإسلامية، والطريقة التي يتعامل بها مع طلابه قد تترك أثرا على صورتهم عن اللغة والثقافة لسنوات طويلة.إحصائيات المجلس الأمريكي لتعليم اللغات الحديثة (ACTFL) تشير إلى أن معدل التسرب في برامج تعليم العربية للمبتدئين قد يصل إلى 40% إذا لم يجد الطالب بيئة مشجعة وداعمة منذ البداية. وهذا يعني أن المعلم في هذه المرحلة لا يعلم لغة فقط، بل يقرر - من حيث لا يدري - مصير الطالب مع العربية.أستاذ الفصول المبتدئة يشبه قائد الطائرة في الرحلة الأولى لراكب جديد: إما أن يجعل السفر متعة وتجربة يتمنى تكرارها، أو أن يزرع الخوف في نفسه فيقرر ألا يركب الطائرة مجددا. لذلك، اختبار المعلم الحقيقي لا يكون في الفصول المتقدمة، بل في فصول المبتدئين... حيث الكلمة الأولى والانطباع الأول يحددان مصير الرحلة كاملة.من يكسب قلوب طلابه المبتدئين في الحصة الأولى، يكسب حبهم للغة مدى الحياة.