الرأي

براءات الاختراع: عملة الجامعات الناشئة في اقتصاد المستقبل

مطير سعيد الزهراني
تشهد المملكة العربية السعودية تحولا ملحوظا في مشهد البحث العلمي والابتكار، تجسد في التقدم الكبير للجامعات السعودية في المؤشرات العالمية لبراءات الاختراع، فقد تبوأت مؤسسات أكاديمية سعودية مراكز متقدمة عالميا، متجاوزة العديد من الجامعات ذات التاريخ الطويل، الأمر الذي يعكس تطورا نوعيا في قدراتها البحثية وفاعليتها في إنتاج المعرفة التطبيقية، ويأتي هذا الحراك ضمن رؤية شاملة يقودها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، لترسيخ مكانة المملكة كمركز إقليمي ودولي للابتكار في إطار رؤية السعودية 2030.ولم تعد براءات الاختراع في السياق الحديث مجرد وثائق تحفظ الحقوق الفكرية للمبتكرين، بل تحولت إلى أصول استراتيجية تعزز اقتصاد المعرفة، وتفتح آفاقا واسعة لتنويع مصادر الدخل، فالبراءة الناجحة تمثل نقطة انطلاق نحو إنتاج منتج أو خدمة قادرة على المنافسة، وتحويل الأفكار من نطاق البحث الأكاديمي إلى الأسواق المحلية والعالمية، ومن هنا تتضح أهمية أن تنتهج الجامعات - وخاصة الناشئة منها - سياسات تضع الابتكار التطبيقي في قلب استراتيجياتها البحثية والتعليمية.وتقدم التجارب الدولية شواهد واضحة على قيمة هذا التوجه، فمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) يحقق إيرادات سنوية بمئات الملايين من الدولارات من خلال تراخيص البراءات ونقل التقنية إلى قطاعات صناعية متعددة، مما يجعل الابتكار أحد ركائز تمويله المستدامة، وجامعة ستانفورد تقدم مثالا بارزا عندما منحت ترخيصا لاختراع طوره طالبان لديها، والذي تطور لاحقا إلى محرك البحث الشهير (Google) ليعود على الجامعة بعوائد مالية ضخمة وشراكات علمية طويلة الأمد، وفي اليابان، طورت جامعة طوكيو ذراعا استثمارية متخصصة استطاعت عبرها تحويل أكثر من 250 براءة اختراع إلى شركات ناشئة خلال 15 عاما، مساهمة بذلك في دعم الاقتصاد الوطني ودفع عجلة الابتكار الصناعي.ورغم اختلاف السياقات، إلا أن هذه النماذج تشترك في مكونات أساسية يمكن للجامعات السعودية الاستفادة منها، ومن أبرز هذه المكونات: وجود مكاتب متخصصة لنقل التقنية تتمتع بقدرات تسويقية وتفاوضية عالية، وتبني سياسات بحثية مرتبطة بحل مشكلات واقعية، وبناء علاقات استراتيجية مع القطاعين الصناعي والاستثماري، إضافة إلى ترسيخ ثقافة مؤسسية تشجع على تحويل الأفكار إلى تطبيقات عملية قابلة للتسويق، مع إدارة المخاطر المرتبطة بعمليات الابتكار.والجامعات الناشئة في المملكة تتمتع بميزة نسبية مهمة، تتمثل في مرونتها وقدرتها على اعتماد سياسات حديثة دون أن تقيدها تراكمات إدارية أو نماذج تشغيل تقليدية، وهذا يمنحها فرصة لبناء منظومات ابتكار متكاملة منذ البداية، تربط بين التعليم الأكاديمي والبحث العلمي وريادة الأعمال، وتوجه استثماراتها البحثية نحو مجالات ذات أولوية وطنية مثل الطاقة المتجددة، الأمن المائي والغذائي، والصحة الحيوية.ولتحقيق أقصى استفادة من براءات الاختراع، هناك أربعة مسارات رئيسية يجب العمل عليها بشكل متوازٍ: أولا، تطوير مكاتب نقل التقنية لتؤدي أدوارا شاملة تشمل التسويق، وإدارة الملكية الفكرية، وبناء شبكات شراكة مع الصناعة. ثانيا، دعم الأبحاث التطبيقية في جميع التخصصات الأكاديمية، مع تحفيز الفرق البحثية على تصميم مشروعات ذات إمكانات تجارية واضحة.ثالثا، دمج مفاهيم الابتكار وريادة الأعمال في المقررات الدراسية لبناء جيل من الخريجين يمتلكون القدرة على قيادة مشاريع ابتكارية. وأخيرا، تعزيز التعاون مع القطاع الخاص والمستثمرين لتأمين التمويل والخبرات اللازمة لتطوير النماذج الأولية وتسريع دخولها الأسواق.إن القيمة الجوهرية لبراءات الاختراع لا تقاس بعددها فقط، بل بقدرتها على إحداث أثر اقتصادي واجتماعي ملموس، فالجامعات التي تنجح في إدارة براءاتها بعقلية استثمارية تستطيع تحويل المعرفة إلى فرص عمل، ونقل الأبحاث من المختبرات إلى خطوط الإنتاج، وتحويل الابتكار إلى عوائد اقتصادية مستدامة، أما الاكتفاء بتسجيل البراءات دون استثمار حقيقي لها، فيجعلها إنجازات شكلية محدودة الجدوى.واليوم، ومع ما تحقق من تقدم في مجال الابتكار، تقف المملكة أمام فرصة تاريخية لترسيخ ريادتها العالمية في هذا الميدان، وإذا ما تبنت الجامعات الناشئة استراتيجيات واضحة ومتكاملة لتحويل براءات الاختراع إلى مشاريع ذات مردود اقتصادي ومعرفي، فإنها لن تكتفي بتحقيق مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية، بل ستصبح شريكا أساسيا في صياغة مستقبل الاقتصاد الوطني ودفعه نحو مزيد من التنوع والاستدامة.Drmutir@