الرأي

بين الضوء والظل: حين تختلف صورة القائد عن أثره الحقيقي

فهد عبدالله العنزي
في زمن أصبحت فيه الكاميرا حاضرة في كل قاعة اجتماع، والمؤتمرات تبث مباشرة، بات من السهل أن يظهر القائد بصورة إعلامية مشرقة، تنقل الانطباع بأنه يمتلك مفاتيح النجاح والتأثير. ومع ذلك، تبقى القيادة الحقيقية أكبر من مجرد صورة أو خطاب؛ فهي تقاس بما يتركه القائد من أثر في قلوب فريقه وعلى واقع مؤسسته.قد تواجه بعض المؤسسات تحديا حين تقيم القادة من خلال قدرتهم على الظهور والتحدث أكثر من قدرتهم على الإصغاء والعمل الميداني. أحيانا، ينعكس ذلك في بيئات عمل يشعر فيها الموظفون بأن الحوار الداخلي محدود، وأن القرارات تدار بأسلوب رسمي صارم، فيما تظل الابتسامات أمام الكاميرات مشرقة. لكن هذه الصورة الإعلامية لا تكفي لتصنع قيادة حقيقية أو ولاء مستداما. فالقيادة التي تبنى على المظهر وحده قد تنتج ولاءات شكلية، بينما يشعر الموظفون بالإرهاق النفسي، وتضعف لديهم الرغبة في الإبداع والمبادرة.ومن واقع خبرتي في الإدارة العامة والإرشاد النفسي، فإن الانسجام بين صورة القائد وسلوكه الواقعي هو أساس بيئة العمل الصحية؛ حيث يشعر الموظف بالأمان الوظيفي، والإيمان بالعدالة، والرغبة في العطاء المستمر. فالقيادة الإيجابية تبني ولاء حقيقيا ينعكس على الأداء المؤسسي، لأنها توازن بين الحضور الملهم والاهتمام الفعلي بالإنسان قبل كل شيء.تظهر التجربة العملية في بيئات العمل أن القائد المؤثر حقا هو من يوازن بين القول والعمل، ويمنح موظفيه الإلهام من خلال القرارات الحكيمة والبيئة العادلة، لا من خلال الأضواء وحدها. فالقيمة الحقيقية للقائد ليست في حضوره الإعلامي، بل في قدرته على بناء فريق متماسك يشعر بالأمان والثقة ويقدم أفضل ما لديه.وتاريخنا الوطني والعالمي يقدم أمثلة ملهمة على هذا النوع من القيادة. الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - رغم عدم اعتماده على الخطابة الجماهيرية أو الحضور الإعلامي، امتلك حضورا شخصيا قويا وعدلا فطريا وتأثيرا صادقا فيمن حوله، ووحد بلادا مترامية الأطراف لتصبح دولة لها أهمية استراتيجية كبرى للعالم سواء اقتصاديا أو سياسيا. وكذلك الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، الذي قاد بلاده خلال الحرب والكساد وهو على كرسي متحرك. لم تمنحه حالته الصحية حضورا جسديا طاغيا، لكنه بذكائه وإرادته وقدرته على استيعاب الآخرين، شكل قيادة غيرت مجرى القرن العشرين.ولعل أجمل ما نراه اليوم هو وجود نماذج مشرفة داخل مؤسساتنا، لقيادات تعمل بصمت، تفهم ديناميكيات العمل، وتنجز بهدوء دون لهث خلف الأضواء.بعض هؤلاء أعرفهم عن قرب؛ لا يظهرون كثيرا في الإعلام، لكن مجرد ذكر أسمائهم بين الموظفين يشعر الناس بالثقة، والاحترام، والأمان الوظيفي. إن حضورهم في الذاكرة المؤسسية نابع من أثرهم الحقيقي. هؤلاء هم من يعول عليهم في مسيرة التحول الوطني، لأنهم فهموا أن القيادة الحقيقية تبنى على الفعل لا على الاستعراض، وهي التزام ومسؤولية وأثر يلمس على الأرض. فالمهارة الخطابية وحضور القائد الإعلامي قد يكونان إضافة جميلة تعكس ثقته بنفسه، لكن الأثر المستدام يتحقق حين يقترن ذلك ببناء الثقة مع الفريق وصناعة بيئة عمل صحية وعادلة.ومن هنا تأتي أهمية أن تواصل مؤسساتنا، في ظل مسيرة التحول الوطني ورؤية الخير 2030، تطوير معايير تقييم القيادات، بحيث تركز على الأثر الحقيقي والشفافية والعدالة، وتشجع على القدوة والإلهام والعمل الميداني الذي يصنع الفارق. ونرى في قيادة سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - مثالا حيا على القيادة العميقة التي تجمع بين الرؤية الواضحة والعمل الميداني، بين الحضور الملهم والإنجاز الفعلي على أرض الواقع.فالقيادة ليست في الظهور وحده، بل في صناعة الأثر والتحول الذي يلمسه الجميع. وما أحوج مؤسساتنا اليوم إلى هذا النمط من القيادة، الذي يقيم بالأثر الحقيقي، ويزرع بيئات عمل تسمع فيها أصوات الموظفين وتقدر فيها الجهود بإخلاص، فينعكس ذلك على استدامة العمل ورفعة الوطن. فبهذا النهج ننتقل من الظل الموهوم إلى ضوء ينير الطريق للجميع.