الرأي

في حمضهم النووي.. السعوديون لا ينظمون الفعاليات بل يعيشونها

مهند عبداللطيف الجداوي
حين تتأمل مشهدا من فعالية سعودية كبرى - سواء في العلا أو الدرعية أو موسم الرياض - قد يخيل إليك أنك أمام نتيجة تدريب طويل وتخطيط دولي محكم. لكن ما لا يراه كثيرون أن وراء هذه القدرة التنظيمية عقلية متجذرة في عمق المجتمع والتقاليد، تمارس تلك العملية منذ عقود، لا على مسارح الفعاليات ومواقعها بل في باحات البيوت وعلى موائد العزائم والمناسبات العائلية والاجتماعية.السعوديون لا يتعلمون التنظيم كما يتعلمه الآخرون من خلال المؤسسات التعليمية والتجارب العملية، بل يمارسونه بالفطرة والنشأة. ليس لأنه جزء من المناهج أو المهام الوظيفية، بل لأنه جزء من الحمض النووي الثقافي لهذا الشعب.العزيمة: مؤتمر بحجم المجالستتكرر المشاهد في كل بيت سعودي عريق. في واحدة من تلك العزائم التقليدية، يبدأ الأب التخطيط مبكرا، ينسق المهام، ويعطي الأوامر وكأنه مدير مشروع.يطلب من أحد أبنائه سحب السيارات من أمام البيت لتسهيل وصول الضيوف، في مهمة لوجستية غير مكتوبة. وفي الداخل، تنشغل الأم بتجهيز المجالس، وتحضير القهوة، وإعداد الأطباق بحسب مقام الضيوف. توزع المهام بدقة، تُختار الصواني المناسبة، وتُنسق الجلسات بعناية، ويقوم الأب بدعوة أحد الأقارب ممن يجيد الحديث أو الطرفة ليضيف للسهرة طابعا من الترفيه.كما يكلف أحد الأبناء بتقديم القهوة، وفقا للعادات والتقاليد، بدءا بالأكبر سنا، وبحسب المكانة الاجتماعية، في ممارسة دقيقة تحاكي بروتوكولات الضيافة الرسمية في المؤتمرات واللقاءات الكبرى.إنه مشهد مألوف، لكنه يحمل في داخله عناصر الفعالية الحديثة: تخطيط مسبق، إدارة لوجستية، تصميم تجربة الضيف، توازن بصري، وتسلسل بروتوكولي حتى قد يتبع العزيمة استبيان لقياس رجع الصدى في نظام يشبه في دقته بروتوكولات المؤتمرات الدولية.ثقافة قبل أن تكون مهنةعادات الضيافة السعودية لم تكن يوما ممارسات اجتماعية فقط، بل كانت - دون أن تدرك - تشكل الأساس الذي تبنى عليه صناعة الفعاليات الحديثة:- هدف واضح للفاعلية- احترام ترتيب الجلوس- تقديم الأطباق حسب أهمية الضيف- دمج الجانب الترفيهي ضمن المناسبة- وتوزيع الأدوار على «فريق العمل» من أفراد الأسرةهذه ليست مصادفات، بل هيكل تنظيمي متكامل، ينمو ضمن الثقافة، لا في القاعات الدراسية.من المجالس إلى القمم العالميةاليوم، حين تقود المملكة فعاليات عالمية ضخمة، فهي لا تصنع شيئا من العدم. ما يحدث هو أن إرث المجالس يعاد إنتاجه بمنطق المؤسسات. بأعداد أكبر لكن الحفاوة والكرم نفساهما، الفطرة تتحول إلى نظام، والذوق الشعبي يتحول إلى «تجربة مستخدم» تحاكي أعلى المعايير العالمية.لذلك، حين نتحدث عن موسم الرياض، أو جوائز العلا، أو عن استضافة كأس العالم 2034، نحن لا نبدأ من الصفر، نحن نبدأ من البيت، من مجلس الأب، من صينية الأم، من الجينات التي كانت تمارس التنظيم قبل أن تضع له القواعد.ختاما، ليس غريبا أن يتفوق السعوديون في إدارة الفعاليات، كما أنه ليس بغريب أن تندرج صناعة الفاعليات تحت بند الضيافة، فقبل أن تكون الفعالية «منتجا سياحيا»، كانت مناسبة اجتماعية تدار بعناية، وتبنى على احترام الضيف، وكرم التفاصيل، وفن الترتيب.باختصار: التنظيم ليس طارئا على السعوديين، هو في حمضهم النووي.