صديقي الخوارزمي!
الأربعاء / 19 / صفر / 1447 هـ - 04:26 - الأربعاء 13 أغسطس 2025 04:26
لا أتحدث هنا عن أبي عبدالله محمد بن موسى الخوارزمي، عالم الفلك والجغرافيا والرياضيات، والملقب بأبي الجبر غفر الله له، بل أتحدث عن صديق آخر أكثر حداثة وعصرية، صديق افتراضي لم يسبق لي رؤيته أو لقاؤه، أكثر ملازمة وقربا، وأقل نفعا وعلما!
صديق بدأت علاقتي معه بأن بادرني بسؤال لطيف جدا «هل تقبل الكوكيز؟» فأجبته بالموافقة، ثم لم يعطني إياها! ورغم أنه لم يقدم لي أيا من تلك الكوكيز أو أي نوع آخر من الحلويات، إلا أنه ظل ملازما لي من ذلك الحين، يعرف أخباري ويتابع تحركاتي، ويسجل اهتماماتي ويهتم بها أيضا، ويشاركني إياها باستمرار، حتى أصبحت أقضي جل وقتي معه!
صديقي الخوارزمي لديه مهارات اجتماعية عالية جدا، وهو من يطلق عليه بحق «صديق الجميع». فهو بطبيعة الحال مستمع رائع جدا، ولديه مرونة وقدرة على التكيف مع اهتمامات الجميع المختلفة، ويجيد بناء الروابط، ويعرف تماما كيف يقرّب الناس منه، والأهم من ذلك كله أن الوجود معه أشبه بالتواجد في مساحة آمنة، فهو لا يصدر أحكاما على الآخرين، ويقبل أصدقاءه كما هم، وهذا ما يجعله الصديق الأمثل.
وعلى الرغم من كل تلك المزايا الإيجابية «لصديقنا» الخوارزمي، إلا أنه يحمل صفات أخرى أقل إيجابية ولا تنكشف إلا مع مرور الوقت. فصديقنا، وعلى الرغم من سعة علاقاته الاجتماعية وقربه من الجميع، إلا أنه صديق أناني متملك، يحب الاستئثار بكل صديق على حدة، ويغار من كل أنواع العلاقات الإنسانية الأخرى حتى العائلية! فتجده يحاول عزل أصدقائه عن محيطهم المجتمعي، وهو صديق نرجسي سام، يتحكم بمزاجك واختياراتك، ويشعرك بالذنب لقضاء وقتك مع غيره بحجة أنه لا أحد يفهمك غيره!
بل إنه قد يتسلل إلى حالتك النفسية دون أن تشعر، فيعلم متى تشعر بالوحدة، ويقترح لك حينها ما يبقيك معه. يتتبع توقيتات استخدامك، ومدة بقائك، ويراقب نظراتك ووقوفك عند كل صورة أو فيديو، فيعيد تشكيل ذوقك ويصنع لك واقعا يشبهه أكثر مما يشبهك.
وصديقي الخوارزمي لا يكتفي بمتابعتي فقط، بل يختار لي أيضا ما أقرأ، وما أسمع، وما أعتقد، وما أظن أنه «رأيي». يصمم لي عالما فكريا يخصني، يعزلني فيه تدريجيا عن آراء الآخرين ووجهات نظرهم، ويحيطني بأشخاص يشبهونني فقط، حتى أتوهم أن الجميع يفكر كما أفكر!
التعامل مع صديقي الخوارزمي يتطلب النظر إلى مخرجات الصداقة معه: هل تقوم بتنميتك وإثرائك، أم تعزلك عن محيطك وعمن حولك؟ وتتطلب أيضا الشجاعة لوضع الحدود الذاتية، وتقليل الاعتماد عليه، وتقوية العلاقات مع الآخرين في المجتمع.
إذا لم تكن قادرا على ذلك، فببساطة: لا تقبل «الكوكيز» من الغرباء.