الرأي

فايز أبا... حين تصمت الذاكرة ويتكلم الأثر

محمد إدريس
في زاوية مشهد عابر، التقطته عدسة هاتف لا تعرف المجاملة، ظهر وجه أعرفه... أو هكذا خُيل لي.رجل مسن يجلس في هدوء، في مكان يبدو كمرفق رعاية صحية أو دار استشفاء، على مقربة منه فتاة شابة تحاول أن تنقل له شيئا من العالم الذي لا يراه: كلمات إعجاب، ردود فعل، إشادات من متابعين لا يعرفهم وربما لم يعد يتذكرهم، لكنها كانت تصر أن يعرف أنهم لم ينسوه.لم يكن يعلق كثيرا، ولم تتضح ملامح استيعابه، لكن شيئا في صمته كان أبلغ من الرد، حسبته شبيها! ثم اقتربت ملامحه أكثر، واستقامت التفاصيل كأن الذاكرة تنفض عنها الغبار:إنه هو، الأستاذ فايز أبا...الكاتب، المترجم، الصحفي، المعلم... الرجل الذي مر في الصحافة مرور نهر عذب لا يضج، لكنه يروي.أنا لا أعرف الأستاذ فايز عن قرب التقيته مرة واحدة، قبل أكثر من 23 عاما، عندما زرت جريدة 'الوطن' في أبها أتذكر هيبته الهادئة، حديثه عن اللغة، طريقته في تشريح الترجمة كما تُشرح جملة موسيقية، واهتمامه بما لا يقال أكثر مما يقال، رجل يجعلك تفكر أن الكلمة لا تكتب فقط بالحبر، بل تصاغ بالضمير.واليوم، وأنا أراه كما في المشهد، بدا لي وكأن الذاكرة تخذله، لكن أثره لم يتراجع خطوة، الكتاب الكبار لا يموتون حين يضعف الجسد، بل حين تموت الذاكرة الجمعية... حين نتركهم في الظلال.ما أغرب وفائنا حين يؤجل؟! نكتب عنهم بعد أن يغيبوا، ونبحث عن صورهم بعد أن يتواروا، ونرفع شعارات الاحتفاء بينما أرواحهم تضعف في الزوايا الصامتة.الأستاذ فايز أبا ليس مجرد اسم هو فصل من فصول الوعي الثقافي الذي مر من هنا، من قاعات التحرير، من دفاتر المعلمين، من الكتب التي لم تشهر، والمقالات التي لم تَشِخ، قد لا يصل هذا المقال إليه، وقد لا تدرجه 'خوارزميات' المنصات في 'المحتوى الرائج'.لكنه يبقى وقفة وفاء. تذكيرا بأن من كتبوا وعينا، يحق لهم أن نكتب عنهم... لا بعد أن يرحلوا، بل وهم بيننا، حتى لو صمتوا، حتى لو خانتهم الذاكرة.