الباحة ونموذج (المدينة البطيئة): هل تصلح أن تكون رائدة في تجربة عالمية للحياة الهادئة؟
الثلاثاء / 18 / صفر / 1447 هـ - 01:17 - الثلاثاء 12 أغسطس 2025 01:17
في عالم يقيس تقدم المدن بما تملكه من ناطحات سحاب ومعدلات نمو متسارعة، يبرز اتجاه فكري مختلف يسعى إلى إعادة الاعتبار لقيمة الإنسان وجودة حياته، وهذا الاتجاه تجسد في حركة المدينة البطيئة (Cittaslow)، التي ولدت في إيطاليا عام 1999، بوصفها امتدادا لحركة «الحياة البطيئة» التي دعت إلى التحرر من ضغط السرعة الصناعية، والعودة إلى أنماط عيش أكثر تناغما مع الطبيعة والمجتمع، الفكرة ليست تراجعا عن التنمية، بل محاولة لتصحيح مسارها، بحيث يقاس النجاح بمدى حفاظ المدينة على أصالتها واستدامة مواردها وتماسك مجتمعها، لا بعدد المراكز التجارية أو شدة الازدحام، وقد توسعت هذه الحركة لتشمل أكثر من مئتين وثمانين مدينة في أكثر من ثلاثين دولة، ما جعلها إطارا عالميا يعيد تعريف العمران الحضري.
وإذا ما ألقينا نظرة متأنية على منطقة الباحة، سنجد أنها تحمل من الخصائص ما يجعلها مؤهلة بامتياز لتبني هذا النموذج، فهي تمتاز ببيئة طبيعية نادرة في المملكة؛ إذ تضم أكثر من خمسين غابة متنوعة، من أبرزها رغدان وعمضان، فضلا عن مدرجات زراعية قديمة وعيون مائية مثل وادي فيق، تضفي على المكان طابعا بيئيا مميزا، كما أن قرى تراثية كذي عين والأطاولة تمثل شواهد عمرانية فريدة تعود لقرون مضت، وقد خضعت مؤخرا لمشاريع ترميم أعادت إليها جزءا من ألَقها، وهذه العناصر تمنح الباحة قاعدة صلبة لتكون مدينة بطيئة بالمعنى العالمي، حيث يعاد بناء التنمية على أساس احترام الطبيعة والذاكرة التاريخية.
على الرغم من ذلك، فإن الممارسات القائمة حتى الآن ما تزال محدودة في أثرها، فالحرف اليدوية مثل صناعة الخوص والفخار والمنتجات الزراعية التقليدية ما زالت تظهر بخجل في بعض المهرجانات والأسواق الموسمية، لكنها تفتقر إلى منظومة تدريب وتسويق تجعلها صناعة قائمة بذاتها، وكذلك رياضة الهايكنج، التي بدأت تستقطب مجموعات من الشباب لقطع المسارات الجبلية، لكنها لم تتحول بعد إلى منتج سياحي متكامل يتضمن خدمات ضيافة ومرافق داعمة، وحتى المهرجانات الصيفية التي تقام سنويا، وإن كانت تساهم في إنعاش الحركة الاقتصادية مؤقتا، إلا أنها لم ترتق بعد إلى مستوى صناعة موسمية راسخة ترتبط بالهوية السياحية للمنطقة طوال العام.
هنا تكمن أهمية التفكير الاستراتيجي في إطار المدينة البطيئة، لأن هذه المبادرات المتفرقة يمكن أن تدمج ضمن رؤية واحدة تجعل الباحة نموذجا وطنيا وعالميا، فالأرقام السياحية على مستوى المملكة تؤكد جدوى هذا الاتجاه؛ فقد تجاوز عدد الزيارات السياحية في عام 2024 حاجز 116 مليون زيارة، بإنفاق يقدر بأكثر من 280 مليار ريال، بينها نحو 168 مليار ريال من الزوار الدوليين، وإذا ما استطاعت الباحة استقطاب جزء صغير من هذا التدفق من خلال تجربة مختلفة، قائمة على السياحة البيئية والثقافية، فإنها ستنتقل من موقع الطرف إلى مركز الفعل في المشهد السياحي الوطني.
وتظهر التجارب العالمية أن هذا التحول ممكن ومثمر، ففي أورفييتو الإيطالية، أدى إحياء الأسواق التاريخية وتنظيم الفعاليات التراثية إلى زيادة أعداد الزوار وتعزيز الاقتصاد المحلي، وفي جيونجو بكوريا الجنوبية، جرى دمج الزراعة التقليدية مع السياحة الثقافية، فحققت المدينة توازنا بين الأصالة والتنمية، أما مدينة بيرات التركية فقدمت نموذجا لكيفية تحويل العمارة التاريخية من عبء يحتاج إلى ترميم دائم، إلى ركيزة أساسية لجذب السياح وتثبيت الهوية الوطنية، وهذه النماذج تكشف ببساطة أن فلسفة البطء ليست مجرد خطاب مثالي، بل آلية عملية لإيجاد فرص اقتصادية جديدة دون التضحية بالهوية أو البيئة.
إن الباحة، إذا ما تبنت هذا النموذج، يمكن أن تقدم خارطة طريق متكاملة تتضمن تشغيل القرى التراثية بوصفها مراكز معيشة سياحية، لا مجرد وجهات للتصوير، وتأسيس مراكز تدريب للحرفيين مقرونة بمنصات رقمية للتسويق، وتطوير مسارات جبلية متصلة بمقاهٍ تراثية وأسواق محلية، وإطلاق مهرجانات مستمرة لا تقتصر على الصيف، إضافة إلى بناء شراكات مع شبكة Cittaslow International للحصول على اعتراف عالمي يمنح التجربة بعدا دوليا.
وأخيرا، ليست قيمة المدن في صخبها ولا في عجلة إنجازاتها السريعة، بل في قدرتها على أن تمنح ساكنيها وزائريها معنى للحياة يستحق أن يعاش، والباحة، بما تختزنه من طبيعة خلابة وتراث معماري ومجتمع حي، مؤهلة أن تصبح مدينة بطيئة رائدة في العالم العربي، تثبت أن البطء ليس نقيض التقدم، بل طريقه الأكثر إنسانية واستدامة.