الرأي

الجامعات واقتصاديات الثقافة: تكامل في التنمية المستدامة

إبراهيم المرحبي
أكدت رؤية 2030 التي أعلنها صاحب السمو الملكي ولي العهد؛ الأمير محمد بن سلمان على أهمية دعم قطاع الثقافة والاستثمار فيه؛ لما في نموه من قيم كبرى تسهم في تعزيز الهوية الوطنية، ودفع عجلة النمو الاقتصادي، وتحسين جودة الحياة للمواطنين والمقيمين في المملكة. وفي ظل تنوع مسارات التنمية عالميا، باتت الثقافة اليوم جسرا رابطا بين الإبداع الإنساني والتنمية الاقتصادية. فمع تزايد الاهتمام بالصناعات الثقافية والفنية والإبداعية بوصفها رافدا للنمو الثقافي والاقتصادي، يبرز الدور المحوري للجامعات في دعم هذا المجال وتحقيق التكامل بين التعليم والثقافة ومتطلباتها؛ فالجامعات روافد متجددة لا يتوقف دورها على التعليم، بل يتجاوزه إلى احتضان تلك الصناعات، وتنمية الابتكار فيها، وتأهيل الشباب بمهارات متقدمة تلبي متطلبات سوق العمل؛ لتكوِّن - بالتالي - اقتصادا متنوعا منسجما مع رؤية المملكة الطموحة نحو بناء مستقبل مشرق وواعد.

إن ما تشهده المملكة اليوم من حراك ثقافي ممنهج - في ظل هذه الرؤية - يرسخ إيمانا عميقا بدور الثقافة في تحقيق التحول الوطني الشامل الذي يعزز مكانة المملكة عالميا ويجعلها أنموذجا رائدا في جميع المجالات، وهو التوجه الذي تبَّنته وزارة الثقافة في خططها الاستراتيجية وانطلقت منه في مبادراتها وشراكاتها مع مؤسسات التعليم العالي والقطاع الخاص، بقيادة سمو الأمير بدر بن عبد الله آل سعود، الهادفة إلى نشر الثقافة على نطاق واسع، وإيلائها المكانة الحضارية اللائقة بها محليا ودوليا عبر حزمة مشروعات ومبادرات نوعية مبشِّرة تسير فيها الثقافة والابتكار جنبا إلى جنب.

وفي هذا الإطار يأتي دور الجامعات لتتكامل جهودها الأكاديمية مع جهود وزارة الثقافة واستراتيجياتها؛ وتبرز بصفتها محورا رئيسا في تطوير الصناعات الثقافية وابتكارها، من خلال إجراء البحوث العلمية البينيَّة التي تمزج الفنون والآداب بالعلوم الأخرى، واستحداث البرامج العلمية الواعدة التي تحقق مستهدفات 'الاستراتيجية الوطنية للثقافة'، بتحويلها إلى نمط حياة وعنصر رئيس في التواصل وتوطيد العلاقات بين الشعوب.

وبالرغم من الدور المتنامي للجامعات في اقتصاديات الثقافة، إلا أن هذا الدور يتطلب - في حقيقته - حراكا متسارعا كاسرا للعزلة البحثية والعلمية بين التخصصات، وذلك بفتح المجال أمام الأبحاث التطبيقية البينية التي ستسهم - بطبيعة الحال - في دراسة آليات خلق المنتج الإبداعي وإنتاجه وتسويقه محليا وعالميا. إضافة إلى إمكانية صياغتها حلولا علمية مبتكرة لمواجهة تحديات القطاع الثقافي؛ فالصناعات الثقافية والإبداعية، التي تمثل نقطة التقاء بين الفنون والآداب والحاسب والتكنولوجيا والاقتصاد وإدارة الأعمال، تستوجب تعاونا بحثيا وثيقا بين مختلف هذه التخصصات الأكاديمية. ومن خلال هذا التعاون يمكن استحداث مشاريع نوعية تسهم في تعزيز قيمة المنتج الفني والثقافي، واستدامته، وزيادة مساهمته في الناتج المحلي.

كما أن هذا التكامل يستوجب - أيضا - تجاوزا للبرامج العلمية التقليدية نحو إيجاد منظومة متكاملة تدمج بين التعليم والفن والإبداع والريادة، كالبرامج العلمية متعددة التخصصات المعتمدة في عدة جامعات عالمية، كالدمج بين الفنون البصرية وإدارة الأعمال، أو بين الأدب والتسويق الرقمي، أو بين الذكاء الاصطناعي والفنون عامة. وهذه الآلية لن تعزز الوعي الثقافي لدى الدارسين بصناعة المنتج الثقافي والإبداعي ودوره في تحقيق التنمية الاقتصادية فحسب، بل تُهيئهم - مع تقادم الزمن - لسوق عمل يتطلب كفاءات قادرة على العمل في مجالات متعددة، مثل: الابتكارات الثقافية، وإدارة المهرجانات، وتنظيم الفعاليات الثقافية الكبرى، والإشراف على مشاريع التراث والسياحة، وتطوير منتجات ثقافية تواكب متطلبات القطاعات الثقافية الـ16 التي شملتها رؤية وزارة الثقافة؛ لتحافظ على مكونات الهوية الثقافية الوطنية، وتقود مستقبل القطاع نحو تحقيق المستهدفات الوطنية.

بهذا، يمكن أن تستكمل الجامعات دورها بصفتها شريكا استراتيجيا مسهما في صياغة مستقبل اقتصاديات الثقافة؛ بما يحقق مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للثقافة، في ظل تطلعات رؤية المملكة الطموحة 2030 الهادفة إلى جعل الثقافة عنصرا رياديا مركزيا في النمو الحضاري والبناء الاقتصادي المستدام.