الرأي

شذرات فكرية

فهد عبدالله
من المشاهد التي أعتني بها جيدا عندما أرى رأيا أو فكرة جديدة، ولا أخفيكم شعور الفرح الداخلي المتنامي لهذا الملمح الجديد، حتى لو كانت تلك النتيجة أو الرأي أو الفكرة خاطئة، ولكنها بالنسبة إلي عرفتني على طرق مختلفة في التفكير ودوافع لم تكن ضمن مساحات قرون الاستشعار المعرفية. لذلك يأسرني ذلك الاستطراد الذي يكون في مساحة البراهين والإثباتات التي تسبق مرحلة الخلاصات والنتائج، وأجدني متيما بمعرفة الظروف، سواء النفسية أو التاريخية أو الفكرية، التي أوصلت شيئا ما لحالته الراهنة.

ومع التكرار الذي يحدث دوريا في هذا الجانب، أخذت على نفسي أن أرصد شيئا من ملامح هذا المشهد الإيجابي الدائم، والذي أعتقد أن له فضلا كبيرا على جوانب كثيرة في الشخصية، وأزاح الستار عن نوافذ لم تكن في الحسبان في وقت مضى بأنها ستكون ضمن مساحات الاهتمام والترقي في جميع مجالات الحياة. وسأسرد لكم شيئا من هذه الملامح كتجربة شخصية يعتريها الصواب والخطأ، ولكنني في الوقت نفسه أكتبها من أجل مشاركة التجارب الشخصية، وأرجو أن تكون مفيدة، وأيضا كشيء من الاعتياد على كتابة ملاحظات المراقبات الزمنية الطويلة، لما تراه في الداخل ممتزجا بما هو في الخارج:

كلمات كثيرة وردت في القرآن مثل التعقل والتفكر والنظر، إلخ. سياقاتها كلها تدور حول إعمال العقل وحثه على النظر والتأمل والتدبر. وهذا الأمر لم يرد بهذه الكثرة في هذا الكتاب الكريم إلا وله دلالة صارخة على الحث الدائم لأن يُعمل الإنسان إنسانيته المتفردة والمرتبطة بشكل وثيق بجزئية العقل.

مهما كان الحجم الكبير للملاءة المعرفية أو التجريبية لديك، لا تكن هذه الملاءة مثلا كحجاب حاجز ومانع لأن ترى ما عند الآخر، وحتى لو كانت لديه معرفة أو تجارب قليلة. هذا السياق في الحقيقة له مسلكان: أولا، التواضع من خلال الترحيب بأي فكرة أيا كان مصدرها، والمسلك الآخر كما عبر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر.

في المسائل المعقدة، لا تقفز أبدا إلى مرحلة النتائج متجاوزا مرحلة المعطيات المتكاملة. بعض الأمور تتطلب أن تأخذ فيها زمنا طويلا حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. لذلك وإن كان لا بد من وصول سريع لنتيجة، فكلمة الميل إلى توجه ما أكثر دقة من الخلوص إلى نتيجة، فهي تسمح لخطوط الرجعة أن تأخذ مكانها داخل النفس وفي التفاعل مع الآخرين.

لا تحكم أو تتبنى قناعة ما بسبب واهٍ، مثلا لأنه هذا ما وجدنا عليه آباءنا أو لأنها قالها أو عمل بها فلان وفلان. فذروة الإنسانية أن تكون القناعات لامست لديك الأوتار العقلية والروحية، وعلى أثرها تراقصت معزوفات الأفكار والأفعال لديك. وليس بالضرورة أن يكون لديك قناعات في كل شيء، فالمنطقة الرمادية مساحة لا نهائية بين الأبيض والأسود.

لا تحجب الفكرة بسبب أنها أتت من مكان لا تحبه، أو لأن لديك فيها حكما شبه سطحي بسبب إحداثياتها المبتعدة عن موقعك القناعاتي الحالي. فالعدالة والنزاهة والتجرد كلها قيم عليا تحثك على النظر المجرد البعيد عن الأهواء، سواء الشانئة أو المؤيدة (لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا).

لا تكن قاضيا واستمتع بالمعرفة. كثيرا ما تجد عند قراءة التاريخ والسير الذاتية بعض التصرفات أو الأفعال التي بشكل تلقائي ستجد من موازينك الحالية تصنفها في عداد الغرائب والأخطاء والعذاريب. ومع مزيد من البحث والاطلاع حول ذلك الأمر، ستجد عشرات المسوغات في تلك الظروف، بأن ذلك كان مثلا خير الخيرين أو أهون الشرين. بل حتى تجد في كثير من الكتب أو مقالات المراجعات تتكرر تلك المشاهد التي يحكي صاحبها بأنه لو رجع به الزمن لتلك اللحظات لاتخذ الموقف نفسه للمسوغات التي قد تكون مجهولة لنا الآن.

احرص على معرفة الصورة الكاملة إذا كان يهمك الأمر، وخاصة في تلك الأمور التي تجذرت القناعات فيها لديك. اعرف الدوافع والأسباب الجذرية والسياقات. وقد تمارس شيئا من تبني وجهات النظر الأخرى لكي تتعرف على الموقف بشكل فاحص وعادل، ومن ثم سيكون لك البقاء على قناعاتك القديمة أو الانتقال للجديدة، أو تطوير شيء جديد يحمل المعطيات لكلا الموقفين.

بكل تأكيد ستقع في الخطأ وسيقع الآخر أيضا في الخطأ. وبالتأكيد أيضا ستحمل قناعات وأفكارا تتهافت على الصوابية والخطأ، المهم هنا أنه لا تثريب على ذلك الخطأ الذي خرج من مسارات اجتهاد، والأهم الرجوع السلس عن الخطأ عندما يتبين لك أنه خطأ.

الاتزان أو الاعتدال أو الحياد ليس بالضرورة أن يكون هو الوقوف في المنتصف، فالجزء الأكبر من القطعة الخشبية الموجودة على حافة الطاولة مثلا والمعلقة في الهواء والجزء الأصغر الموجود في الجهة الأخرى، ثق وتأكد بأن شيئا ما موجود في الجزء الأصغر قام بتثبيتها، ولو تعاملت معها بفكرة المنتصف ستهوي من تلك الحافة بكل تأكيد.