الرأي

قراءة جديدة لاغتيال الحريري

بسمة السيوفي
شكل مقتل رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، في 14 فبراير 2005 منعطفا حاسما في تاريخ لبنان والمنطقة بأسرها.هذا الحدث الذي وقع عبر تفجير مروع في قلب بيروت، أدى إلى تصاعد الغليان السياسي والاجتماعي في البلاد.لم يكن مجرد جريمة بشعة، بل كان ضربة لآمال اللبنانيين في الاستقرار وللبنان كدولة تتجاذبها الطوائف من كل حدب وصوب.لم يكن الحريري مجرد زعيم سياسي؛ بل كان رمزا للوحدة الوطنية في لبنان، حيث ساهم في إعادة بناء البلاد بعد الحرب الأهلية وعزز العلاقات الدولية، خصوصا مع السعودية ودول الخليج، مستخدما هذه التحالفات لدعم رؤيته الاقتصادية.كما كانت لديه علاقات وثيقة مع القوى الغربية، مما جعله هدفا لأعداء الداخل والخارج بالرغم من أن كان يردد أن ليس لديه أعداء.التحليلات السياسية تشير إلى أن عملية الاغتيال شكلت منعطفا محوريا في مسار الأحداث للشرق الأوسط، حيث أدت إلى تغيير في ميزان القوى اللبناني.. تلا الاغتيال إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (STL) بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1664، وهي مبادرة مشتركة بين لبنان والأمم المتحدة تستند إلى القانون الدولي.ومع ذلك عكست هذه المحكمة الانقسام السياسي والطائفي السائد في لبنان، إذ واجهت انتقادات بسبب بطء إجراءاتها وحدود نطاق صلاحياتها، والتهديدات التي تعرض لها فريق التحقيق.وبالرغم من الحكم بإدانة مصطفى بدر الدين باعتباره المخطط الرئيسي للعملية.. إلا أنه قتل في ظروف غامضة بدمشق عام 2016، ولم تتمكن المحكمة من تقديم إجابات شافية حول الشبكة المسؤولة عن الهجوم.كما أصدرت المحكمة أيضا حكما أدانت فيه أعضاء آخرين لحزب الله غيابيا، لكن الجدل حول المسؤولين الحقيقيين ما زال قائما ومستمرا مع وجود اتهامات مباشرة وغير مباشرة ضد الحزب والنظام السوري.ما أود الإشارة إليه هو أن بث البرنامج الوثائقي لقضية اغتيال رفيق الحريري عبر قناة العربية ومنصة شاهد يأتي في توقيت بالغ الأهمية، حيث يتزامن مع واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخ لبنان.فالأزمة الحالية تشمل الفساد السياسي، تدهور الخدمات الأساسية، وغياب الثقة بين المواطنين والدولة.لذا فإن تسليط الضوء على القضية بعد مرور أكثر من عقد ونصف يثير تساؤلات عديدة... مثلا: هل هي محاولة لربط الأحداث التاريخية بالواقع الفعلي، وتحليل تأثيرها على وضع لبنان اليوم؟ أم أنه سعي لاستكشاف أبعاد تتعلق بالتحولات الإقليمية والدولية المرتبطة بالملف اللبناني؟ هناك من يعتبر البرنامج جزءا من جهود إعادة رسم الخريطة السياسية في لبنان، عبر السعي لإعادة تشكيل التحالفات والمصالح في ظل الأزمات الراهنة.وهناك من يعتبر أن تغييب الحريري عن المشهد السياسي 'فاتورة مؤجلة' يدفع ثمنها لبنان حتى الآن.أشارت صحيفة Le Monde الفرنسية إلى أن إعادة طرح قضية اغتيال رفيق الحريري قد يرتبط بالتغيرات الإقليمية الأخيرة، مثل تراجع النفوذ الإيراني والتقلبات في سوريا، فضلا عن دور الجماعات المسلحة في مستقبل لبنان.هذه العوامل تشكل شبكة معقدة من المصالح السياسية والاقتصادية التي تستدعي الانتباه.وقد يكون فتح هذا الملف محاولة لتذكير اللبنانيين بالدور التاريخي للسعودية في دعم استقرار لبنان، خاصة مع تزايد الحديث عن تقليص الدعم الخليجي بسبب هيمنة حزب الله.حتى الجاحد لا يمكنه إنكار أن السعودية استثمرت أكثر من 70 مليار دولار في لبنان بين 1990 و2015 من خلال مساعدات واستثمارات.بالإضافة إلى ذلك يعيش أكثر من 250 ألف لبناني في المملكة، وتستقبل دول الخليج 26% من صادرات لبنان، مما يعكس الاعتماد الاقتصادي الكبير على هذه العلاقة.. لذا فإن هذه المعطيات كافة تعيد طرح الأسئلة حول مستقبل الدعم العربي للبنان في ظل الهيمنة السياسية للمليشيا المدعومة من إيران وتداعيات ذلك على الاقتصاد اللبناني.أما عن التصعيد الإسرائيلي المتواصل ضد قادة حزب الله في سوريا ولبنان فإنه يتجاوز الحسابات العسكرية، حيث يعكس عمق التنافس الإقليمي على النفوذ والسيادة.فبينما تسعى إيران لتعزيز دورها عبر حلفائها، تعمل إسرائيل، بدعم غربي، على تقويض هذا النفوذ باستخدام القوة العسكرية والسياسية... وتهدد سيادة لبنان بفعل حروب الوكالة المتفاقمة على أراضيه.لكن يبقى السؤال: كيف يمكن للبنان الحفاظ على سيادته واستقراره في ظل هذه المتغيرات التي تخدم أجندات استراتيجية، أبرزها الأجندة الإيرانية؟ كيف وإسرائيل تستغل الظروف لتبرير عملياتها العسكرية تحت غطاء 'الدفاع عن النفس'، لكنها تهدف فعليا إلى تقويض الدولة اللبنانية وإضعاف مؤسساتها.وفي ظل التحديات المتزايدة، تتجه الأنظار إلى مستقبل لبنان الذي يتأرجح بين سيناريوهين متناقضين: الأول إيجابي، حيث قد يؤدي إعادة فتح ملف اغتيال رفيق الحريري إلى الدفع بإصلاحات سياسية تقلل من النفوذ الخارجي وتعيد بناء النظام، مما يساهم في استقرار اقتصادي واستعادة الثقة بين الشعب والسلطة.أما السيناريو المتشائم، فيتمثل في استمرار هيمنة المليشيا المدعومة من إيران، وتفاقم الفوضى السياسية والاقتصادية، مع تصاعد التوترات الإقليمية، مما يعمق عزلة لبنان ويزيد من تعقيد الأوضاع.إعادة فتح ملف اغتيال رفيق الحريري اليوم يتجاوز كونه مجرد تذكير بالماضي الأليم، في بلد يحارب من فيه.. كل ما فيه.. بلد الأرز المرضوضة والتعيسة والجريحة، كما وصفها البرنامج الوثائقي، ما زالت تعيش على أمل يتجدد.. فقراءة الماضي وتحليل تداعياته لاستشراف المستقبل.. هو السبيل نحو بناء وطن يليق بأهله.. رغم كل الأزمات.smileofswords@