الرأي

القطاع غير الربحي ومدى الفصل مع القطاعات الأخرى - الوقف الصحي أنموذجا

محمد عبدالله السلومي
يأتي القطاع غير الربحي عالميا مسهما في التنمية الشاملة والمستدامة من خلال الشراكات والأوقاف والتطوع والتبرع بصفته قطاعا ثالثا من قطاعات التنمية، وبصفته الأخرى أنه قطاع مستقل منافس في القيم والأداء والجودة في الخدمات والتكامل مع القطاعات الأخرى، وهو قطاع غير حكومي وقطاع غير ربحي حسب التسميات العالمية.فـ(القطاع الحكومي) مما يوفر بيئة العمل الخيرية والتطوعية ويدعمهما، كما أن (القطاع الأهلي التجاري) يهدف لخلق القيمة الاقتصادية والشراكة والدعم للقطاع غير الربحي، و(القطاع الخيري وغير الربحي) قطاع حيوي ومهم في تنمية المجتمعات وتلبية احتياجاتها، حيث يهدف لتقديم القيمة الخيرية والتعاونية المجتمعية، وبالتالي فهو منفصل إداريا عن مدخلات القطاعين الآخرين ومعظم مخرجاتهما، وهذا يؤكد لنا أهمية فهم التخصصات بين القطاعات، وضرورة عدم تداخلها، والعودة للأصل الذي نشأ القطاع الخيري وغير الربحي من أجله.وقد تأتي بعض الممارسات بوطننا الغالي من حسن نية إلى التساهل في تطبيق مبادئ الفصل بين القطاعات وعدم التنبه للقيم الخاصة بالقطاع الخيري وغير الربحي، فمثلا قد يتبنى أحد رجال الأعمال والمحسنين - مشكورين مأجورين - الإنفاق الخيري بالبناء والتأسيس والتأثيث لإنشاء وحدة غسيل للكلى، أو وحدة طبية معنية بعلاج السرطان وما شابه ذلك، وهي حالات متكررة من أهل العطاء في وطن العطاء، لكن دون أوقاف مستدامة، ومثل هذا إنشاء مستشفى خيري من دون تخصيص أوقاف معنية به، وبعد تأمين المبنى أو المباني اللازمة وربما التأثيث الكافي والكامل يتم إدخالها أو منحها للقطاع الصحي الحكومي لتشغيلها، وهو ما يشكل عبئا إضافيا على القطاع الحكومي الصحي على سبيل المثال.إضافة إلى أن هذا العطاء أو المنح للعيادات أو المستشفيات مما يتعارض مع مبادئ وقيم القطاع غير الربحي، كما لا يتوافق مع الممارسات العالمية لهذا القطاع التي تفصل بين القطاعات؛ حيث أهمية المنافسة بين القطاعات في الخدمات والجودة، كما أن التداخل بين القطاعات وعدم الفصل بينها لا يحقق دقة الحوكمة وأهدافها، إضافة إلى أن هذا الواقع لا يعطي الإحصاء الدقيق لمعرفة حجم إسهام القطاع في الدخل الوطني، وهو في الوطن السعودي يعد من عوائق رفع نسبة إسهام القطاع غير الربحي للوصول إلى نسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي، كما نصت على هذا الرؤية السعودية للوصول إلى هذه النسبة كمعيار وهدف.ولهذا فإن من أبرز ضمانات نجاح القطاع الصحي الخيري وغير الربحي العمل على تحقيق ركائز ثلاث، وهي: أن هذا القطاع مخصص للفقراء والمحتاجين من مواطنين ومقيمين دون بيروقراطية برسوم رمزية غير ربحية، ثم أهمية تلازم الأوقاف مع الكيان الصحي للاستدامة المالية، ويضاف إلى هذا وذاك وجوب وضرورة ميلاد شركات طبية تجارية متخصصة معنية بالتشغيل.الرؤية ومستهدفات الفصلتؤكد رؤية 2030 الخاصة بتمكين القطاع غير الربحي، على هدف رفع إسهام القطاع غير الربحي بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، وتستهدف دعم وتيسير الأعمال الخيرية والتطوعية، وتعزيز إسهام المواطنين في تقديم العون، والدعم لكل أفراد المجتمع.وقد دعمت الرؤية السعودية عموم هذا القطاع منذ نشأتها بغرض تنسيق جهود الجهات الحكومية المعنية بالقطاع غير الربحي لتسهيل الترخيص للمنظمات، وتنظيم البنية التحتية لها، وتوسيع مجالات أعمالها، وهو ما أحدث نقلة في أسلوب عمل القطاع غير الربحي في المملكة ليتسم بالكفاءة الفاعلة والشفافية والاستدامة.كما شهد القطاع بمؤسساته وجمعياته ومنظماته الخيرية زيادة ملحوظة وصلت إلى حوالي 7000 جمعية ومؤسسة، ويمكن للأفراد المشاركة في نمو هذا القطاع وتأسيس منظمة غير ربحية بأسرع وقت عبر منصة نوى.وحول لوازم الرؤية والفصل بين القطاعات وضعت الرؤية ثلاثة أهداف استراتيجية، تتشارك في تحقيقها مختلف الجهات، وهي: (دعم نمو القطاع غير الربحي، وتمكين المنظمات غير الربحية من تحقيق أثر أعمق، وتشجيع العمل التطوعي).كما تستهدف الرؤية الوصول إلى قطاع غير ربحي قوي، ومبادر وداعم ومؤثر في التعليم والصحة والثقافة بصفة خاصة، وقد تم تتويج هذه الأهداف بإنشاء المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي المتخصص. والمتأمل للأهداف الثلاثة الاستراتيجية يدرك أن دعم النمو للقطاع، وتمكين منظماته، وتشجيع الجانب التطوعي يتطلب الفصل الإداري والمالي للقطاع عن غيره، بل إن مدى تحقيقه للأهداف الثلاثة يرتبط بصورة مباشرة في العمل على فصل القطاع الخيري وغير الربحي عن القطاعات الأخرى في جوانب مسؤوليات التشغيل والإدارة والإنفاق المالي.الاستدامة الصحية بالأوقافتأتي أهمية الوقف على المنشآت الصحية التابعة للقطاع الخيري وغير الربحي المعني بالصحة بصفتها أكثر الاحتياجات للأوقاف المخصصة لها التي تضمن التشغيل والاستدامة، وهو ما يتطلب مراجعة أرشيفات الهيئة العامة للأوقاف لحصر الأوقاف المخصصة للصحة، والاستفادة منها كبينة أساسية للأوقاف الصحية، مع استثمار تفعيل الجمعيات الصحية الاجتماعية وفصلها عن الجمعيات الصحية العلمية، والتي تصل مجتمعة إلى 100 جمعية معنية بالصحة حسب تقرير وزارة الصحة بعنوان (الجمعيات الصحية الأهلية القائمة)، ويقاس على هذا الوقف الصحي القطاع التعليمي غير الربحي.ويضاف إلى عمليات التفعيل والفاعلية إشهار الأوقاف العامة المعنية بالصحة - على سبيل المثال - رغم قلتها؛ لتعزيز وتقوية ثقة المحسنين والموقفين باستدامة أوقافهم الصحية وعمل المزيد منها، إضافة إلى أهمية التعريف أكثر بصندوق الوقف الصحي المجتمعي وإشهاره بصورة أكثر بالتعاون مع منصة (إحسان)، ودعم منصة (شفاء) التي حققت أرقاما قياسية في وقف الأفراد حينما تجاوزت 4 ملايين تبرع فردي حسب صندوق الوقف الصحي، وهو ما يبرز تفاعل السخاء المجتمعي، ورصيد القناعة المجتمعية بالأوقاف المعنية بالصحة إلى مستويات مباركة في القطاع الخيري وغير الربحي.ويمكن أن يكون التركيز على إنشاء أوقاف معنية بالعيادات الخيرية التي يمكن التوسع فيها لقلة تكاليف الإنشاء والتشغيل، مثل عيادات غسيل الكلى والأمراض السرطانية وما شابهها، كما أن وجود هذه العيادات المنافسة يعمل على تخفيض تكاليف العلاج في المستشفيات والعيادات الخاصة الربحية مرتفعة التكاليف.فالأوقاف هي العمود الفقري في إنجاح الاقتصاد الاجتماعي، وفي توفير الموارد المالية، وتحفيز المحسنين لإنشاء أوقاف معنية بالصحة، وتبني دعم قيام شركات غير ربحية معنية بالتشغيل في القطاع الصحي الخيري وغير الربحي، وعلى سبيل المثال، ففي أمريكا لوحدها حسب الجمعية الأمريكية للمستشفيات 2024م، يوجد حوالي 58% من المستشفيات غير حكومية وغير ربحية وصل عددها إلى 2987 مستشفى غير ربحي، لكنها قائمة ومدعومة بالأوقاف الخاصة بها كقطاع غير ربحي مستقل عن القطاعين الحكومي والتجاري وهو ما يضمن المنافسة والحوكمة والإحصاء، ويمكن للمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي مراجعة الأنظمة المعنية بهذا الموضوع المهم، بتفسير ما يمكن تفسيره، وتوضيح ما يمكن إيضاحه، وشرح ما يمكن شرحه.ومثل هذه المقترحات الوقفية الصحية من الممكن أن تكون أنموذجا آخر لصناعة قطاع تعليمي خيري وغير ربحي لمعالجة الحالات التي لا يستوعبها القطاع التعليمي العام أو الخاص.