طباخ السم في ضاحية بيروت
الأربعاء / 22 / ربيع الأول / 1446 هـ - 01:03 - الأربعاء 25 سبتمبر 2024 01:03
الأمواج عاتية، والصراخ أعلى من الألم، والجرح غائر، والدم انتشر، والصدفة فرضت نفسها على المشهد، وربما التعبير الأكثر مصداقية بدلا عن الصدفة هو الخديعة.والخديعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرب، ولها موقعها حتى في لغة الصمت، وأيضا لها مساحتها الخاصة، كعنوان عريض وواقعي وليس افتراضيا. والكأس لا بد له أن يدور على من يرون أنفسهم صناع التاريخ، مهما كان أسود أو أبيض. والوقت خصم للجميع؛ وعقارب الساعة مخيفة، ولعينة وفيها حقها من الغدر.في الأيام القليلة الماضية اتجهت الأعين للبنان، وهي الدولة التي تشكل فسيفساء التعايش.ومن باب التصالح مع النفس، يجب ملامسة الحقيقة التي تؤكد أن تلك البقعة الجميلة لطالما حازت على النصيب الأكبر من الأخبار العاجلة والعناوين الساخنة في خريطة المنطقة، ولا غرابة بذلك، لأن الخفافيش تجد لها مرتعا مناسبا هناك، فقد تمكنت من تحويلها لحديقة خلفية لعديد من الملفات المشتعلة، وهذا بسبب الارتهان الفئوي والطائفي المقيت، ولغة السلاح ومنطق القوة.عن لبنان مهما قيل ومهما كتب، فلن يتم الوصول للمستوى القليل من الصيحات التي ارتفعت جراء انفجارات خططت لها تل أبيب، في خطوة خبيثة ناجمة عن خرق تقني وأمني لحزب خارج عن إطار القانون والدولة، لطالما سوق لثقله، بأنه يوازي ثقل دول بعينها، من النواحي السياسية والأمنية والعسكرية.في الحقيقة يحتاج الأمر إلى تدبر وتفكر عميق، لا سيما ونحن أمام جناحين – إسرائيل وحزب الله - متوازيين في التطرف وفاجرين في تجييش العامة، بعيدا عن التكاليف.فسياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليست ببعيدة عن التفكير الذي ينتهجه زعيم ميليشيات حزب الله في لبنان حسن نصر الله، وهذا يتضح من خلال تلاقيهما في أمور عدة، ما هي؟أولا: انتهاج سياسة الكبرياء والعنتريات من منطلق القوة الضاربة الفارغة.ثانيا: توريط المدنيين لدفع ثمن المواجهة.ثالثا: استغباء الجميع داخليا وخارجيا.وبالمقابل فإن نصر الله يشترك مع نتنياهو في جميع ما سبق بالقول والعمل. الفرق بين الشخصيتين في حجم المعاناة، فالأول يعاني من أزمة تأصيل الدولة، التي تصطدم بمفهوم الاحتلال، أما الثاني فيواجه مشكلة الخوف من تبخر مشروع، أوعز له ركوب موجته منذ 1982م.في نظري أن زعيم ميليشيات التطرف في لبنان، بدا قبل أيام حين خرج بكلمة متلفزة عقب 'ثلاثاء البيجر' كسيرا يعاني من مأزق سياسي وعسكري، وحتى شعبوي، زج به بين كماشات متفاوتة، الأولى: كماشة الترويج بأن استهداف المدنيين في لبنان خط أحمر.والسؤال المنطقي، من هم المدنيون المقصودون! هل هم مواطنون لبنانيون من العامة، أم منتمون للحزب! فكل منتمٍ للحزب له دور إما سياسي أو عسكري أو إعلامي، وهذا يضعه منطقيا في خانة الاستهداف.الكماشة الثانية: تدور حول الخوف والخشية، من تململ القواعد الشعبية، تحديدا ذوي المصابين في هجمات الموساد، نتيجة عدم القدرة على جلب ثأرهم من الطغمة الحاكمة في إسرائيل.والثالثة: هي أن شكل الرد المنتظر من حزب الله، يجب أن يعتمد على النيران المفتوحة وعنصر المفاجئة، بما في ذلك وضع المدنيين هدفا، كما انتهجت تل أبيب.فالرواية القادمة من الضاحية الجنوبية لبيروت – وهذه رواية مضللة هدفها كسب التعاطف والتأييد - أن المدنيين اللبنانيين كانوا هدفا للعملية الإسرائيلية، وإن صحت، فهذا يمنح الضوء الأخضر للحزب باستهداف المدنيين في رده على حكومة نتنياهو.هل يمكن أن تقدم الميليشيات على مثل هذه الخطوة المتهورة؟ في نظري لا، لأن ذلك سيفتح أبواب جهنم على لبنان بالمجمل، إذن ما الخطة المنتظرة أو البديلة التي قد تحفظ ماء الوجه، وتعمل على شراء أكبر قدر من الوقت؟ ستنشط الجبهات المساندة لحزب الله، كالميليشيات المتطرفة في العراق، وميليشيات الحوثي في اليمن، وبعض الفصائل في سوريا.أتصور أن نصر الله دفع نفسه لورطة كبرى قبل أيام، حين توعد بالقصاص. السؤال، ماذا لو لم يتم الرد واتخاذ موقف بالمستوى نفسه؟ في رؤيتي سيكون ذلك أقسى من رده، لماذا؟ لأنه سينسف الأدبيات والشعارات الخاصة بحزبه، وبالتالي، سينعكس ويتحول الأمر وبالا على مفهوم المقاومة برمته، كمن يطلق النار على قدميه.إن صب الزيت على النار، المعتمد على مقارعة الصوت بالصوت، وفرد العضلات الكاذب، سيؤدي إلى توريط لبنان، كدولة تعتبر قطعة من الجسد العربي، وهو ما لا يدركه السيد في الضاحية التي شهدت على ولادة قواميس خاصة، همها الأول والأخير تنفيذ الأجندة المؤدية للخروج عن النص، كونها تقوم على محاور رسمها العجم، من بيروت، لبغداد، ودمشق، حتى صنعاء؛ للمشاركة في تفاصيل قضية كبرى، أقل ما يقال عنها أنها قذرة بجميع المقاييس.بكل أسى وأسف وحزن، أجد أن في العالم شخصيات تملك القدر الكافي من الوحشية المؤدية إلى نشر ثقافة الموت، وحمل الجنائز والنعوش، دون امتلاك مفاتيح المقابر.إنهم طباخون ماهرون، أكثرهم براعة في المنطقة والعالم العربي، زعيم المأجورين في لبنان الموصوف في العنوان بطباخ السم في ضاحية بيروت. سيأتي يوم يتذوق فيه ما صنعته يداه.. 'صحتين على قلبك أبا هادي'.