الرأي

البدو والروس وقماشة العالم الجديد

خالد العويجان
نادرا ما يكون للوفاء موقع في عوالم السياسة.المصالح هي كل شيء، وعدم المجاملة حاضر في جميع التفاصيل.والمصداقية على عداء في كثير من العلاقات السياسية، ووجودها حالة صعبة ما لم تكن مستحيلة، إنما هناك حالات فريدة وغريبة تعيش مستوى كبيرا من المصداقية.في العلاقات السعودية الروسية، الموضوع مختلف إلى حد واضح وملموس.تعيش الدولتان حالة من التصالح والتسامح والمصداقية على غير العادة كما قلت، في الاقتصاد، والسياسة، والأول أهم من الثاني، والثاني لا يعيش دون الأول، أعني الاقتصاد والسياسة، بل إن أحدهما أب للثاني، والثاني ابن للأول.صحيح أن علاقة الرياض وموسكو شهدت بعض الانعطافات التاريخية، وحدث نوع من القطيعة، أو التباعد إن جاز التعبير، لكن الجميع استفاد من الدروس السابقة، كيف؟إبان الحرب السوفييتية الأفغانية التي اندلعت نهاية السبعينات واندثرت في أواخر الثمانينات؛ لم يكن الانسجام السعودي – السوفييتي على ما يرام، وهذا ما كان يتردد في وسائل الإعلام الرسمية وليس حديثا في المجالس المغلقة، فحالة التنافر كانت معلنة وواضحة.لكن العلاقات الدبلوماسية عادت بين البلدين مطلع التسعينات، أي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد شابها نوع من الفتور إلى أن تبددت المخاوف، إذ لا يخفى على أحد، لا سيما من يقرأ التاريخ من مصادره المعاصرة أن المملكة كانت تعاني حساسية من فكرة 'الشيوعية' التي تنتهجها موسكو، قبل الانهيار.وهذا له مسبباته العديدة، من أبرزها:أولا: فالغرب قد عمل على تعزيز هواجس الرياض.ثانيا: كان للسياسة الروسية التي دعمت علنا أنظمة الحكم اليسارية في المنطقة، دور في ذلك التباعد النابع من القلق السعودي، نظير احتواء السوفييت لنظام جمال عبد الناصر في مصر، وهو الذي عرف عنه الخروج عن النص العربي على حساب شعارات ولدت وماتت في مكانها وزمانها.وكذلك مساندتها لتجربة اليمن الجنوبي، التي كانت تتبنى فكرة الاشتراكية ولم تفهمها، فقد فشلت رغم الدعم، وتأثرت الأحزاب اليسارية بالفكر والنهج الماركسي الذي صاغ أفكارا مؤسسة على الرأسمالية؛ إلا أن التجربة اليمنية اصطدمت وذهبت ضحية لعاملين، الأول: القبيلة، الثاني: صراع قيادات الحزب الواحد على السلطة.وهذا ما استغله علي عبد الله صالح، وجمع جيشا تخلله مقاتلون من جماعة الإخوان المسلمين، وأحرق ورقة أن يكون هناك يمن شمالي وجنوبي، ونشأت فكرة الجمهورية اليمنية الواحدة التي حكمها أبا أحمد بالحديد والنار؛ وأجاد الرقص على رؤوس الثعابين. المهم في هذا الصدد أن الدعم السوفييتي لليمن الجنوبية تبخر وذهب أدراج الرياح.وبعد سقوط الاتحاد وتفككه تولى السلطة في موسكو بعض ممن يمكن تسميتهم بالزعماء الجدد، من بينهم أبناء المخابرات الروسية 'كي جي بي'، أبرزهم فلاديمير بوتين، الذي خدم في هذا الجهاز قرابة عقدين من الزمان، ولم ينس جراح الخرائط التي تسبب بتفكك الدولة الأم.بوتين ليس نرجسيا أو مهووسا بالزعامة التي تؤدي للهيمنة من منطلق القوة، وهذا بالمناسبة ديدن الزعماء الروس، لا يملكون فكرة استعراض العضلات، لكنهم أساتذة في العناد والمقارعة والمواجهة.وضع القيصر خريطة مصالح بلاده على الطاولة، ورأى العالم بأسره. وبعمق وجد أن العلاقة مع دولة ذات ثقل ديني وسياسي واقتصادي واجتماعي كالسعودية، يجب أن تكون في أسمى حالاتها.انتهج الصدق وبادلته بلادي الأمر نفسه. الجميع تعالى عن الجراح، أقصد جرح الخلاف الذي تسببت به أفغانستان وحربها، وارتفع مع الوقت سقف الثقة بين البلدين.جاءت أزمة سوريا التي اندلعت عام 2011، ومعروف أن دمشق حليفة لروسيا منذ عهد الرئيس حافظ الأسد؛ الذي ابتعث جزءا لا يستهان به من شباب وطنه للدراسة والتدريب في روسيا، رغبة منه في التقارب مع الأوطان البعيدة، خصوصا من لديها خصومة مع ما يسمى بالإمبريالية الغربية.تدخل بوتين متأخرا في الأزمة السورية، لكنه في الوقت نفسه، وحتما استشار الحلفاء في الرياض، حتى لا تتصادم المصالح.كان هدف العالم أجمع إسقاط بشار الأسد، روسيا قالت لن يسقط، والرياض قالت ليس ذلك هدفا، بقدر ما الأولوية لعزل الميليشيات عن الساحة السورية. وتبنت موسكو تلك الفكرة.إلى هذا الحد يجب أن أتوقف عن كتابة ما لا يمكن أن يقال.كل ما سبق مقدمة للقول إن وزير الخارجية سيرغي لافروف حط في الرياض الأسبوع الماضي، قابل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ودعاه لحضور قمة مجموعة بريكس أكتوبر المقبل.وتلك الدعوة جاءت من إيقان روسي أن المملكة ستضيف مزيدا من الأهمية لذلك التكتل.ولافروف من الرياض، من باب الوفاء أثنى على مساهمة المملكة بتبادل إطلاق سراح أسرى بين روسيا وأوكرانيا، ينتمون لدول عدة.وبالدهاء السياسي الروسي وضع الوزير مفارقة بين أن السعودية، تسعى لإطفاء نيران الحرب، فيما يجتهد الغرب لإيقادها.واعتبرت روسيا التي أبدت امتعاضها من استمرار العنف الإسرائيلي ضد غزة؛ أن قيام دولة فلسطينية هو الإطار المحدد لتحقيق سلام شامل في المنطقة.وذلك أرضيته مبادرة السلام العربية التي أطلقتها المملكة عام 2002.ما يهمني في ذلك هو النظر للثقل السياسي الكبير المملكة، وإلا لن يغامر الدب الروسي بالإعلان عن موقف بلاده، من دولة هامشية ودون قيمة.إن اعتدال ورصانة المملكة، في وسط بقعة من الأرض تعج بالجنون، هو أمر مثير للغاية.وهذا ما يقودني للقول إنه ومهما مضت الأيام، فإن على الجميع انتظار الصورة الحقيقية لما سينتج عن تحالف البدو والروس.. في قماشة العالم الجديد.