الرأي

ليتنا عرفنا

بسمة السيوفي
مرحلة العشرينات هي مرحلة التأرجح بين الشك والتردد وبين الشعور بالقوة والتمكن في بعض الأحيان.. بالنسبة لي كان الشغف مصاباً بأعراض التشويش.. كنت أشعر دائمًا بأن هناك نسخة أفضل مني موجودة في مكان آخر، وأنني لست كافيًة للبدايات بسبب الإحساس بعدم الرضا عن الذات. كنت أتمنى لو عرفت أن أجمل اللحظات في الحياة ستأتي مع التجربة، ستزدهر مع الدعم العائلي، ومع نوعية الصداقات التي ستمتد لعقود، خلال الدراسة والتخرج والعمل، وخلال مشاهدة الأولاد وهم يكبرون، والحياة الزوجية بين المد والجزر.. ويا ليت وحبذا.. وكم كنت أتمنى.التوقعات من الناس والحياة تكون مشرقة وغير ناضجة في البدايات.. مقارنة بما سنعيشه في السنوات اللاحقة.. فالإنسان لا يدري إلى أين يمضي؟ وهل يحسب نتاج أفعاله؟ ماذا يريد أن يأخذ معه، وما الذي سيبقى شاهداً عليه؟ وما الذي يجب أن يتعلمه في كل مرحلة من مراحل الحياة؟ «ليت» المعرفية تلخص الكثير من الأمنيات غير المحققة والفرص الضائعة، وغالبًا ما تكون بداية لحكايات مليئة بالعبر والمفارقات، والتخلي عن القناعات في مقابل ما يسمونه النضج. ليتنا عرفنا مثلاً أن الوقت مورد محدود، وأن القرارات التي نتخذها في مرحلة مبكرة من حياتنا لها تأثيرات طويلة الأمد... وأن العلاقات التي نختارها تؤثر بشكل كبير على نوعية حياتنا. ليتنا عرفنا أننا سندفع ثمن الراحة في مقابل الشعور بالإنجاز، وأن عقلية النمو والسعي الدائم للتعلم والتطوير الشخصي تتطلب الكثير من الإصرار والسقوط والفشل. ليتهم أخبرونا أن الحدس قد يجنبنا الكثير من الأخطاء عندما تدعمه الخبرة والمعرفة.. وأن النجاح لا يعني دوماً أن تحصل على الامتياز.. وأن الالتزام والمثابرة يعززان فرص النجاح والرضا عن الذات. الرضا الشخصي ليس مجرد حالة نفسية مؤقتة، بل هو عامل مؤثر على جودة حياتنا.. هو الشعور بالقبول والإيجابية تجاه الذات والآخرين، بحيث تتوازن توقعات الشخص وإنجازاته مع القدرة على تحقيق الأهداف الشخصية، والقدرة على التواصل مع الآخرين. من المؤكد أن الأفراد ذوو المستويات العالية من الرضا الشخصي هم أكثر قدرة على التكيف مع الضغوط والتحديات الحياتية... فالأفراد الذين يجمعون بين الالتزام والمرونة ينخفض لديهم الشعور بالندم على الخيارات التي تم اتخاذها، ولديهم قدرة أكبر على تحقيق النجاح. هناك مواقف في الحياة تجعلك تتأمل الأمور التي فات أوانها.. فلا تدري إذا ما الفوت ينفعُ.. حدث أني كنت أجدد بطاقة الصراف من بنك لا أزوره كثيراً.. تعاملك البنوك على قدر 'فلوسك'، ويثقون بأرقامك أكثر من أي شيء آخر...دخلت من البوابة الواسعة.. اتجهت يميناً.. كنت أرمق حارس الأمن في زاويته.. وهو الذي لم يعبأ بدخولي أو جلوسي.. فقد كان في خلوة شرعية مع هاتفه. اقتربت من مكتب الموظفة.. لم يكن هناك غيرها.. فأشرّت لي بالجلوس بينما كانت تسحب بعض الورق من الطابعة.. بعدها حادثت الزميل إلى جوارها بصوت عال.. ثم جلست لتمسك الجوال وتناقش مشكلة عميل آخر.. أشارّت لي بيدها «هويتك».. ناولتُها... قلت: «أريد بطاقة جديدة».. أومأت بعينيها.. مازالت على الجوال.. ارجعت الهوية وعليها ورقة لاصقة صفراء بها رقم طويل.. وأشارت بأصبعها: «توجهي إلى شباك رقم 2.. صفي خلف «الحرمة» الواقفة هناك!» وكانت الكلمة كالقشة القاصمة التي لا يحتملها ادراكي في بيئة عمل بنكية.لم أعلق.. سألتها: ألا تطبع كروت الصراف من الأجهزة اتوماتيكياً؟ ردت: 'غير متوفرة في هذا الفرع'.. فابتسمتُ لها دون أن تشرق شمسي.. وتوجهت لأعيش تجربة العميلة المستجدة التي لا تزور البنوك إلا نادراً.. تمنيت وقتها لو كنت العميل السري الذي ترسله الشركات متخفياً.. ليقوم بزيارة المنشآت التجارية دون أن يعرف الموظفون أنه يجمع المعلومات حول تجربة العميل وجودة الخدمات، ليقدم تقريراً مفصلاً للجهات العليا.تحركتُ باتجاه الشباك فقالت: «سيصلكِ لاحقاً رابط من البنك.. فضلاً اختاري (10) في التقييم».. قلت: «سأعطيك (1) ».. ردت باستغراب: لماذا؟ فقلت بابتسام: «لا أبداً.. شكراً لك ويعطيك العافية».. وتمنيت لو أن كلماتي دقت جرساً.. وأنها تنبهت لوجود خلل.. فقد تجمعت كل السلبيات كالذئاب الضالة في رأسي.. الصوت العالي، الانشغال خلال الخمس دقائق التعيسة التي منحتني إياها، وكلمة «حرمة» التي زادت الطين بلة.. تركت الذئاب الضالة بعدها تفترس معايير جودة الخدمة التي نسمع عنها.. وأكملتُ الخطوات لأصل إلى الشباك وأقف وراء «الحرمة» إياها.. انتظرت 10 دقائق على أقدامي.. بعدها استلمت كرت الصراف البلاتيني وغادرت. ما أريد قوله أن اختياراتنا وقراراتنا تحدد جودة ما نقول وما نفعل.. وأن الانتباه للتفاصيل الصغيرة وإظهار الاهتمام الحقيقي، سواء في العلاقات الشخصية أو في بيئة العمل، سيتغلب على شعور الخيبة الذي يصيبنا من أسلوب تعامل البعض. ويا ليتهم يعرفون أني أحب البنك.. لدرجة أن أجد العذر للموظفة.. ربما لم تكن راضية عن عملها.. ربما لم تتناول قهوتها بعد.. ربما لم تتدرب جيداً على تقديم خدمة ممتازة.. وربما كان حارس الأمن أيضاً ساخطاً على فئة «الحريم» التي تدير البنك خلف المكاتب.«ليت المعرفية» تحمل في طياتها عبء الأمنيات والفرص التي تضيع.. فلو عرفنا في وقت مبكر لتجنبنا الكثير من الأخطاء في الحياة.. ليتهم.. وليتني.. وليت البنك... وليت العميل السري وليت التميز المؤسسي.. كل ما فعلته أني سألت عن اسم مدير الفرع.. وقد أخبروني.. ولم يصلني رابط تقييم الخدمة بعد.