الرأي

هل السمع والقلق من الأمراض المهنية؟ 

زهير ياسين آل طه

ما يقلقني كثيرا مع من يشاركونني 'القلق' من الواعين من سالكي طرق الصناعة والتصنيع والتدوير والطاقة والتطريق (للمعادن) والتكرير ودهاليزها المعقدة الصحية الخفية، يكمن في قلق السابقين المتأزمين من السالكين للطرق من الرواد والمتقاعدين المتأثرين منهم مباشرة، والآخرين المقبلين لا سمح الله على التأثر من منظور كامن في علم الغيب.

والبعض من المتأثرين بأمراض مزمنة ولربما عاهات وللأسف من غير تقييم وتدقيق؛ يخرجون أنفسهم من عباءة الارتباط القانوني نحو إرهاق وزارة الصحة ومستشفيات الهيئة الملكية للجبيل وينبع بأمراضهم المهنية مثلا، وتحميل هذين القطاعين الحيويين تبعات المنشآت ممن عمل المصابون لديهم لسنوات طويلة، تعرضوا مباشرة وغير مباشرة لبيئات صناعية وبتروكيماوية وطاقة تتراوح فيها الخطورة وضبابية التقيد بالمواصفات العالمية للسلامة والصحة المهنية المتغيرة قبل وبعد 2018 تقريبا، والسبب يكمن في فقدان المعرفة بالقوانين الملزمة لعلاجهم مدى الحياة ممن تسبب لهم بها ابتداء وليس ترحيلا للغير.

وقد بدأ يزداد 'القلق' بعد تصريح وزير الموارد البشرية للامتثال بالسلامة والصحة المهنية، الذي ذكرناه تحليلا دقيقا في المقال السابق لنسب إحصائية مشجعة جدا بعد ست سنوات من الامتثال المطلوب 'المحمود' من 2018 ليومنا، وضبابية خفية مخيفة لامتثال متذبذب عائم قبل الست سنوات رجوعا للوراء من بداية النهضة الصناعية، والإصابات وبالأدلة والشواهد تتحدث عن نفسها وستنطق وتصرخ لو انفتح بابها بصدق ودون تحيز وتهرب وغلق أبواب أو تصريف مصلحي، وللأسف لمسناه خلال لقاءات معنية بالأمراض المهنية من أصحاب العلاقة المباشرة وغير المباشرة، وأذكر قبل سنة تقريبا كنت حاضرا في لقاء مميز بالتصريف المصلحي بسبب ارتكابنا خطأ تنظيميا أحذر منه نفسي وغيري مستقبلا بإرسال أجندة مفصلة مقدما كمطلب مفروض لما سنناقشه ونطرحه قبل الاجتماع بفريق يرأسه مساعد محافظ 'بل ليس بخطأ إنما ثقة وصدق' استغلها الآخرون لاحتواء الأمر والترتيب لخنقه، وانتهى بالانسحاب المبكر للمساعد بحجة ارتباطات أخرى وتسليم الزمام لبقية الفريق غير المعنيين بصنع القرار، وخرجنا كما دخلنا ولربما أسوأ من قلق التصريف.

المعضلة المقلقة تكمن في الغوص في معرفة وفهم تفاصيل الأمراض المهنية المجدولة لدى التأمينات الاجتماعية ولو أنني أتحفظ على النقص فيها، لكن ما جاء في الجدول يحتاج إلى إرشاد مستمر ورقابة توعوية مستمرة ومتجددة للممارسين ومن سيقدمون لاحقا للممارسة لأخذ كل الاحتياطات دون حصولها مباشرة أو تراكما مع الوقت، وهي مسؤولية كبيرة يتحملها بصدق وأمانة وإخلاص أصحاب العلاقة المباشرة المنشآت، وغير المباشرة من المشرعين والمتابعين والمدققين، كوزارة الموارد البشرية والتأمينات الاجتماعية.

بما أننا تطرقنا للأمراض المهنية وأشرنا للامتثال المطلوب 'المحمود' للسلامة والصحة المهنية، فعلينا أن نقيمها مع الواقع العملي من شمولها الكل أو من عدمه والدعوة لتحديثها وتطويرها، وهو أمر مطلوب في سلك النمو والتطور والنهضة التي تميل بشكل كبير نحو جودة الحياة لاستدامة معدلات النمو المخطط لها.

أما السمع والقلق في العنوان فيمثلان عدة مفاهيم ويرتبطان بأمراض جسدية عضوية وأخرى نفسية خفية تتأثر من بعض الأمراض العضوية أيضا، فالسمع والطاعة متلازمان ويندرجان تحت الامتثال المطلوب 'المحمود'، ويأخذ الامتثال أيضا مصطلح 'المذموم' ضمنيا من منظور علم النفس، وسلوك الامتثال المذموم ضمنا أو الاتباعية أو الإمعية بالإنجليزية (Conformity)‏ كما أطلقه عالم النفس الاجتماعي الأمريكي صلمون آش عام 1958؛ يتمثل في رؤية الشخص بعض أفراد المجتمع يتصرفون بشكل خاطئ في موقف معين، ثم يقوم بمتابعتهم على الرغم من علمه بخطئهم، ويفعل ذلك لعدم رغبته في التمرد على الأغلبية والانحراف عنهم، ويصنف آش ثلاثة أنواع للامتثال أو المطابقة:

- الامتثال: الانصياع للضغوط الاجتماعية مع الاحتفاظ بالرأي الشخصي.

- الطاعة: الامتثال للأوامر المباشرة.

- القبول: المطابقة والانسجام الذي يشمل كلا من التمثيل والاعتقاد من خلال الضغط الاجتماعي.

فهل الامتثال المذموم بكل أصنافه يعتبر موردا من موارد القلق والأمراض النفسية التي لا تبتعد عن أي سلك عملي لا تتمثل القيادة والريادة الحقيقية هدفا له؟ والأمراض النفسية لمن يتفق معي غير مذكورة في جدول الأمراض المهنية بالرغم من كونها مسببة 'للقلق' والضعف في الشخصية وعدم الثقة بالنفس، أم أن الأمر برمته ليس مسؤولية واضعي الجدول ومشرعيه، وترحيله لنزاهة مثلا من ناحية الفساد الإداري.

العودة للسمع كمرض يكمن في الضعف، فهو مذكور بوضوح في الجدول، ومسبباته أهمها الضوضاء، وليس له علاقة بالامتثال بنوعيه لأنه مرض جسدي عضوي مباشر ومسبب للقلق كلما اشتد، وإن لم يتم ذكره في الطب مع الأمراض العضوية المسببة للقلق من ناحية السلامة والحياة الطبيعية، ولا تخلو بيئة صناعية من تأثر سالكيها منه وبنسب متفاوتة، وهو لربما يصل ويفوق 90% لدى بعض البيئات الصناعية بسبب الأجهزة والتفاعلات، وتشخيصه لا يتعدى الدقائق، وبالإمكان اكتشافه في ثوان حينما يتكلم المرء بصوت عال باستمرار لعدم سماعه لصوته وسماع الآخرين للتفاعل والتبادل والتوقف.

ما أريد الوصول إليه في هذا التوضيح المبسط، هو العناية والرعاية بكل الأمراض ومنها النفسية المرتبطة بالقلق وبالامتثال المذموم، المؤثرة على السلامة والصحة المهنية وتشخيصها بالطرق التقنية الحديثة التي أدخلت الذكاء الاصطناعي لبعض الأمراض للتسريع، وعدم ترك الرواد والمتقاعدين يصارعون أوضاعهم بأنفسهم والتخلي عنهم، بل دراسة حلول جذرية تخدمهم تقديرا لخدمتهم الطويلة ومساهماتهم في نهضة الصناعة والطاقة، بتأمينهم طبيا على نفقة منشآتهم التي عملوا فيها وتأثروا منها صحيا مباشرة وغير مباشرة بأمراض كامنة حدثت قبل زمن الامتثال المطلوب 'المحمود'، وضعف السمع هو أحد الأمراض التي لا يمكن إغفالها بسبب الامتثال لوضوحه كوضوح الشمس لدى فئة كبيرة جدا، مما يعطي إشارة حمراء طويلة المدى لو انفتحت تتبعها إشارة خضراء لتبني العلاج لجميع المتأثرين بالأمراض قانونا، وهو أمر لا يخلو من إرباك التأمينات الاجتماعية التي لا تقبل الجمع وتقبل الانفراد في رفع الشكاوى.