الرأي

خطوبة نص الليل

بسمة السيوفي
في منتصف الليل وبعد الثانية عشرة تحديدا، الظلام يترصد خارج نوافذ غرفة النوم، استلقت على سريرها استعدادا لنوم عميق بعد جهد يوم متعب.تفقدت هاتفها ثم ألقته على الطاولة البعيدة، وما إن أطفأت النور الجانبي حتى رن جرس الهاتف.. التقطت الجهاز.. الرقم غريب.. الجوال مبرمج على ألا يدق إلا بعد اتصالين تحسبا لأي طارئ عائلي.. «اللهم اجعله خيرا».. والداها على سفر.. زوجها وولدها الأكبر خارج المنزل عند أصدقائهم.. «ألو».. أتاها صوت امرأة لا تعرفها.. «السلام عليكم،» ردت بصوت هادئ مترقب.. «وعليكم السلام»، أردفت المتصلة: أتمنى أن يكون الوقت مناسبا؟ هناك صوت موسيقى وحوارات مختلطة في الخلفية.. قالت: هل أنت السيدة «فلانة؟ قالت «نعم، أنا هي.. عذرا من معي؟ «أنا علاّنة»... سمعنا كل خير عنكم... فقلت أكلمك بخصوص ابني الطبيب... قالوا عندك بنت بيضاء، ذات شعرٍ طويل، جامعية في سن الزواج.. ونحن نفتش له عن عروس».. تجمد الوقت والزمان وعقرب الساعة.. هي لا تعرف السيدة ولا تعرف ابنها.. والأكثر غرابة أن عرض الخطوبة العجيب هذا يحدث بعد منتصف الليل؟!ردت باقتضاب لتنهي هذا السخف؛ فلم تكن المرة الأولى التي يتقدم فيها أحد لخطبة ابنتها الوحيدة؛ لكنها بالتأكيد كانت التجربة الأولى لأغرب توقيت، سألتها: أين يعمل ولدك؟ قالت: «طبيب، حاليا في الخبر وقد ينتقل إلى مدينة أخرى لاحقا، ابني كامل مكمل ما شاء الله عليه وجاهز وسيكون خيرا عليها إن شاء الله».. ردت فورا: «أعتذر، ابنتي تريد أن تبقى في جدة بعد زواجها»، ردت «العلانة»: اصبري طيب، خدوا فرصة تسألوا وتفكروا؟».. أعربت عن أسفها مرة أخرى قائلة «ما في نصيب».. وأنهت المكالمة بعد الشكر والاعتذار.بقت هواجس الليل معها تستنكر فقدان البعض لآداب التواصل المهذبة مع أناس جدد.. خاصة عند نية التراحم. لم يكن الأمر مجرد عرض غير ملائم في توقيته، بل كشف عن تجاهل آداب وتقاليد الخطبة، من قال لهذه المرأة أن خطبة البنات قد تلقى القبول المبدئي «بعد نصف الليل»؟ وكيف يختزل فعل الخطبة البسيط والمعقد في نفس الوقت بكل مفاهيمه الاجتماعية الجميلة في مبادرة فظة ومعيبة منذ البدايات.مراسم الخطبة في المجتمع السعودي لها تقاليد اجتماعية أصيلة، تعبر عن احترام القيم الثقافية والدينية. وتختلف هذه المراسم بالتأكيد حسب المناطق الجغرافية والعادات والتقاليد المتعارف عليها.. تبدأ الخطبة بالتحضير من قبل أسرة العريس، حيث يكون لأم العريس بالذات دور جوهري في البدايات، ثم تأتي مرحلة الزيارة الرسمية التي يقوم بها أهل المعرس وكبار عائلته لطلب يد العروس على سنة الله ورسوله، فإن كان هناك قبول مبدئي تنتقل الأمور إلى التحقق من الجوانب الدينية والاجتماعية والمادية للعريس، للتأكد من التوافق وضمان الاستقرار الأسري.يتم بعدها تحديد موعد عقد القران الذي يسمى «الملكة» بكسر الميم وتسكين اللام. أما في حالة الرفض، وهو الشر الذي لا بد منه؛ فيتم التعامل مع الأمر بأسلوب دبلوماسي دون الإساءة لأي طرف، مع ضرورة تقديم الشكر والاعتذار للعائلة الأخرى، وتوضيح الأسباب بطريقة لبقة لأن الرفض أيضا له آداب.سمعت أن عروسا رفضت خاطبها لأنه حضر «للشوفة» مرتديا «شبشب» تظهر منه أظافره الطويلة، وكان بالنسبة لها مؤشرا فاضحا عن مستوى نظافته الشخصية، وأخرى رفضت العريس لأنه عند السؤال عن مسلكه وأخلاقه اكتشفوا علاقاته الفاسدة والمتعددة، وأن أهله يريدون تزويجه حتى «يعقل»، هناك أمور في الزواج غير قابلة للتفاوض قد تؤدي للرفض منذ البدايات، منها التوقيت الخاطئ، ومنها أن تكون غير محجبة وهو يريدها أن تتحجب، أو أنها تعمل وهو يريدها ألا تعمل، هذا على افتراض القبول بالعريس والوصول إلى مرحلة التوافق المبدئي إلى حين عقد القران.تتعدد أسباب رفض الخاطب، فقد يرفض لعدم التوافق الاجتماعي أو الثقافي، ويرفض بالتأكيد لعدم التوافق الديني، أو قد تطرأ مشاكل متعلقة بالأمور المادية، أو قد تكشف الفحوصات الطبية عن قضايا صحية تؤثر على الحياة الزوجية.كما يلعب اختلاف منظومة القيم الشخصية دورا أساسيا في الرفض، مثل اشتراط الكفاءة في النسب، أو الجنسية، أو نتيجة لبعض العادات التي خلفتها العصبية القبلية، مما يؤثر على قرار القبول، أو أن يكون هناك اختلافات في المستوى التعليمي أو المهني.. أو انعدام الطموح بشكل لا يتناسب مع تطلعات الطرفين المستقبلية.ما أود قوله أن هناك مقومات لإنجاح الخطبة، يقع العبء الأكبر فيها على أم العريس (أو من تقوم مقامها).. للتقدم بشكل لائق لأهل العروسة.. فعليها جمع المعلومات الدقيقة واختيار التوقيت المناسب للزيارة، التزاما بالعادات الاجتماعية والثقافية وتعبيرا عن الاحترام والتقدير، أيضا لا بد من وجود مهارات تواصل فعالة تحقق التفاهم، وتراعي المرونة في احترام قرارات عائلة العروس سواء بالقبول أو الرفض، والتعامل مع ذلك بكل لباقة.في الخطبة، لا يشفع لأم العريس أنها الأم فقط.. بقدر ما يجب أن تظهر الاستعداد واللباقة مع الكثير من الذكاء الاجتماعي، أم العريس مرآة عائلتها، وبتصرفاتها تظهر مدى احترامها لذاتها وتقديرها لعائلة العروس، وعند الخطبة تصبح هي الرمز الحكيم الذي يتطلع له الجميع.. فإن نجحت في الموازنة بين التقاليد الاجتماعية والتطلعات العائلية، فإنها ستؤسس لعلاقة مباركة تلقي بأثرها الإيجابي على حياة ابنها الزوجية.لذا.. فتشوا عن أم العريس وتخيروا حموات بناتكم.. فإن الأخلاق دساسة.smileofswords@