الرأي

البعد الفكري لمشروع التحديث المعاصر

زيد الفضيل
في ظل ما نعيشه من تحديث على مختلف المناهل والأصعدة في ظل رؤية 2030 برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظه الله، وقيادة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان يحفظه الله، يصبح مهما التفكير بجد في إيجاد مشروع ثقافي معرفي فكري ناضج ليكون بمثابة الحاضن المرجعي الآمن لما نعيشه من تحديث.وواقع الحال، فهناك عديد من المشاريع المعرفية التي أخذت تطفو على السطح، وأحدها ما تقوم به جمعية الفلسفة من ندوات وملتقيات سنوية، لكن ذلك ليس المقصود بما أشرت إليه، إذ جميعنا يدرك بأن خطاب الفلسفة عميق في مكنونه وليس سهلا على كل أحد أن يندمج في أفانينه وبعده الدلالي والمعرفي، وهو ما يجعل منه خطابا فئويا في مضمونه وانتشاره.أتصور بأننا في حاجة ماسة إلى وجود خطاب معرفي بسيط في مدلوله، متسامح في جوهره، والمهم أن يكون مرتكزا على منظومتنا الثقافية الأصيلة وعلى رأسها المنظومة الدينية، مع ضرورة استيعابنا إلى أن الخلاف بين الرؤى والأفكار مستمر باستمرار الحياة، وأن ذلك سمة أرادها الله مصداقا لقوله تعالى {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} ولهذا فلم يعد مقبولا في ظل حالة التطور المفاهيمي المعاصرة أن نعيش ثقافة التفكير الديني الأحادي الإقصائي الذي حصر مفهوم الحقيقة الربانية في إطار محدد هو ما آمن به واعتقده، وعلى الآخرين الانضواء تحت لوائه الفكري لكي يتوافقون مع الحق.وواقع الحال فليس مقبولا أيضا أن يقوم الآخر بممارسة سلوك الإقصاء على ذلك التيار الأحادي المتشدد، بل مهم أن يستفيد من حالة انجلاء السطوة السابقة ليصحح كثيرا من المفاهيم الخطأ التي تم الترويج لها مجتمعيا في ظل هيمنة التيار الأحادي على المشهد. مع الإشارة إلى أن لب إشكال الأمة كامن في كيفية فهم النصوص والتعامل معها، وأضرب لذلك مثلا صارخا مثل جذوة البناء الديني لدى الأحاديين خلال فترة ماضية، وأقصد به حديث «الفرقة الناجية».لقد مثل هذا الحديث نقطة إشكال جوهرية بين المسلمين، حيث انطلق المتشددون في نقد الآخر وصولا إلى تبديعه وتفسيقه من خلال تحجيرهم لواسع في فهم وإدراك مضمون الحديث، الذي يدل في أساس لفظه على الإخبار وليس التأسيس لحكم ديني، مع الإشارة إلى أن التأسيس لحكم ديني إقصائي جاء وفقا للزيادة المختلف حولها، والتي يجمع كثير من المدققين أنها زيادة غير صحيحة، لكونها أحادية في بنائها التركيبي.في السياق نفسه، فمهم أن يتم ترشيد الفهم الليبرالي لكثير من المواضيع الحياتية وبخاصة ما يتعلق منها بالثقافة الدينية، فالتشدد لا يواجه بتشدد، والإقصاء لا يواجه بإقصاء، وعليه فليس مقبولا أن يبني الليبراليون خطابهم الثقافي ومنهجهم الفكري على فكرة إقصاء الآخر، وتحجير فهم واسع لكثير من مضان الدين الإسلامي بوجه خاص، بل ونراهم يعمدون إلى تهميش مختلف الآراء الفقهية وصولا إلى ازدرائها في خطاباتهم الإعلامية، وهو أمر غير مقبول أيضا.أشير إلى أن مصطلح «ليبرالي» و»علماني» من المصطلحات الحادثة الملتبسة في ثقافتنا المجتمعية، إذ تدل في مصدرها الغربي على حالة ذهنية وسلوك معرفي يختلف عن شكله ومضمونه في ثقافتنا الوطنية بل والعربية إجمالا. حيث تم إطلاقها ابتداء على كل من يخالف التيار «الإسلاموي المذهبي» فيتم وصفه بأنه «علماني» ثم مع نهاية القرن العشرين ظهر وصف «ليبرالي»، دون النظر إلى حقيقة منطلقه الفكري، وما إذا كان جوهره نابعا من رؤى إسلامية أو غير ذلك. مع التأكيد على وجود آراء مخالفة تنطلق من رؤية غير إسلامية، ولذلك كان مهما التفريق بين تيارين متباينين ضمن إطار المدرسة الليبرالية نفسها.ينطلق التيار الأول من تصوره بأن نهضة الأمة لا تتحقق إلا بالخروج بها من شرنقة الفكر الماضوي على أي صورة كانت دينية أو تراثية، أدبية أو فكرية، وتصور بأن النهوض لا يكون إلا بالتأسيس لمشروع التغريب في أذهان المجتمع.أما التيار الثاني فينطلقون من رؤى تحديثية تجديدية علمية ودون أن يكون لديها أي إشكال مع الديني، بل إنها عملت على بناء تحديثها انطلاقا من قراءتها التجديدية للمشروع الديني نفسه، وهو ما أطلقت عليه في مقالات سابقة اسم «الليبرالية الإسلامية».أختم بالقول بأن مفهوم «الليبرالية» وإن كان مصطلحا غربيا بمعنى «التحرر»، إلا أن معناه أصيل في ثقافتنا الربانية، التي تؤمن بأهمية التحرر من قيد المذهبية الضيقة إلى رحابة المفهوم النبوي، فالدين ليس محصورا بأفهام علماء سابقين، والتدبر والتفكر ليس قاصرا على جيل دون آخر، على أن ذلك ليس مفتوحا لكل من هب ودب كما نشهد اليوم. وإنما هو محصور فيمن امتلك قواعد الاجتهاد المتفق عليها أصوليا.zash113@