الرأي

المشاعر التي تختبئ

بسمة السيوفي
كنت على موعد مع مشاعري من جديد، صعب أن تكون الجلاد والحكم في نفس الوقت لنظام أحاسيس تترأسه الذكريات وما بقي من جنود الإرادة، وأنت في صالة السينما وأمام فيلم عن المشاعر، أتيت للمشاهدة وأنا أحمل مشاعر فياضة أمطرت بها السحب على قلبي منذ يومين، كان هناك حالة انسجام راضية مع الخراف وكؤوس الشاي آخر الليل، ومع أحاديث عميقة عن الاستحقاق، وعن مقطوعات كونشيرتو وسيمفونيات وحتى عن باليه «طائر النار» لسترافينسكي؛ ليصبح أحدهم فجأة في معيتك رغم الغياب، وتصبح كمن يربط غيمة بيضاء بحبل وثيق من أبعد نقطة في جوف السماء السابعة؛ لتتبعها وتتبعك، دون أن يكون هناك سبب، سوى أن تحمل الأمنيات ترفا على كتفك، فتنسجم وتهدأ من جديد.الانكشاف الأكبر كان بسبب فيلم Inside Out 2 الذي شاهدته، حضرت بسبب الحنين إلى النسخة الأولى (التي حصدت الأوسكار عام 2015).. أظن أن الجمهور مثلي استسلم إلى حنين الماضي فكان سببا في نجاح الفيلم بجدارة، أتيت لأرى ماذا سيحدث لبطلة الفيلم «رايلي» بعد هذه السنوات التسع، وأخذتني المشاهد في رحلة من الصراعات المعقدة بين المشاعر التي تتولد مع الوقت والتجربة، وكيف تتأثر بها القرارات الشخصية، بطلة الفيلم الكرتوني عمرها 13 عاما، تتحكم فيها 5 مشاعر رئيسة: الفرح والحزن والغضب والاشمئزاز والخوف، وهي المشاعر التي يجرى تمثيلها في عالم مواز متقن بشخصيات حقيقية، إلى جانب 4 مشاعر جديدة: القلق والحسد والإحراج والملل.تدور أحداث الفيلم من غرفة التحكم في عقل «رايلي»، تقوم عواطفها المتجسدة في صورة أشخاص بتشغيل لوحة مفاتيح لها أزرار وأذرع، تجعل «رايلي» تبتسم أو تَعبِس أو تبكي أو تدفع جسدها إلى العمل. وقد نجحت «شركة بيكسار Pixar» كعادتها في جعل الرسومات متقنة لدرجة مذهلة، وتفوقت بالاهتمام بالتفاصيل الدقيقة واللعب بالألوان الزاهية.السهم المنطلق من قوس النقد يقول أن الفيلم عموما يرسخ لفكرة «عالمية المشاعر» وإن البشر كائنات نمطية تحركها الاستجابات الموحدة، وهو ما يسمى بنظرية العواطف الأساسية التي تبناها العالم «بول إيكمان»، وترى أن المشاعر الأساسية هي ستة: الغضب، والاشمئزاز، والخوف، والسعادة، والحزن، والمفاجأة.. وأن هناك خصائص معينة مرتبطة بكل من هذه المشاعر، يتم التعبير عنها بدرجات متفاوتة. إلا أن دراسة مغايرة ظهرت برؤية بديلة يستشهد بها في علم العواطف.. تقول إن حالات الشعور الإنساني تحدث بطريقة معقدة تتفاعل بها الطبيعة البشرية، بالإضافة إلى المخزون العاطفي، وبيئة التنشئة الاجتماعية.. يتأثر بها الدماغ فيقوم بترميز سيناريوهاته العقلية، لتتشكل طرق التعبير عن التجربة العاطفية.هناك «بنائية سيكولوجية» وتنوع هائل في حالات الشعور للبشر تتمايز بها الشعوب والثقافات.. تماما مثل الاختلاف الدقيق بين الشعوب العربية والغربية والأفريقية والشرق آسيوية.. يستحيل معها توحيد الفهم أو التعبير عن المشاعر بين البشر. «فالرضا مثلا يختلف عن الفرح، بينما يمتد طيف السعادة من الوفرة المطلقة إلى الرضا البسيط». ويختلف المرء في التعبير عن «الأحاسيس البسيطة المتراوحة بين الغضب الفعلي أو الخوف الحقيقي، وهي العواطف التي نختبرها بعمق وقوة التفاصيل».وأرى بخلاف ما تحاول «بيكسار» ترسيخه أن حبكة النسخة الثانية ينقصها القليل من التبريرات لبعض التغيرات الفسيولوجية التي تحدث في النفس البشرية؛ لأن آلية تفاعل المشاعر مربكة خاصة أن الثقافة الشخصية والمجتمعية تلعب دورا رئيسا في كل عاطفة نشعر بها، وليست مجرد أشياء ثابتة نملكها أو نختبرها.. فتظهر أو نستدعيها حينما يحين وقتها، هناك استحالة أن تتماثل المشاعر والأحاسيس عالميا في ظل التنوع البشري المذهل.السؤال هنا: هل نعرف ما نشعر به حقا؟ وهل نملك أدوات التعبير عما نشعر به؟ هل لدينا القدرة على فهم وإدارة المشاعر بطريقة تعزز من جودة حياتنا وعلاقاتنا؟ النقص في إدارة المشاعر الإنسانية قد يؤدي إلى مشاكل كالاكتئاب والقلق، وقد يزيد من مخاطر الأمراض المزمنة؛ لذا فإن فهم أصول المشاعر وكيفية تأثيرها يكمن في التعبير الصحيح عنها وفهم مصادرها وعدم قمعها، بل التعامل معها بفعالية، مثل إبداء المشاعر بطرق بناءة أو التفكير في أسباب بعضها ومواجهته بحلول مناسبة.ولأننا نعيش في عالم متسارع.. يصبح التناقض فيه طبيعيا، ويصبح التعبير عن الذات مختبئا وراء ألف قناع، ولأن الأجيال الشابة تعيش تناقض التناقض وتهافت التهافت داخل دوامة ترى أن العالم مليء بالاضطراب وبالقسوة، والطمع، والتضليل، والأثرة، والمواهب المهدرة.. أجد أن أحد الحلول هو تضمين التدريب على المهارات العاطفية في المناهج كجزء من التعليم الصحي للطلاب والطالبات في مدارسنا وجامعاتنا، مع توفير العديد من الخدمات النفسية والاستشارات المجانية عبر الإنترنت لمساعدة الأفراد على التعامل مع المشاعر المتناقضة.أما عن الشخصية الأعظم التي أحببتها كثيرا في الفيلم فكانت «النوستالجيا» أو الحنين، حيث ظهرت في شكل سيدة كبيرة السن بشعر رمادي وملابس بنية اللون ونظارة بسلسلة عنق وردية، تحب الشاي والذكريات، وتخرج قبل وقتها من باب جانبي مرتين فقط في الفيلم لتختبئ وتعود خائبة، وكأن الحنين شعور ثانوي يأتي بعد المشاعر الأساسية فقط، يتراكم ولا يضرب عميقا في الشرايين إلا عندما نكبر، خرجت من السينما وأنا أحمل غيمتي العزيزة معي فقد شاهدت وتذكرت وأحسست وشعرت واشتقت وخبأت.. وبعض المشاعر لا تسعها أوعية الحروف.. وبعض المشاعر تغير ملامح الأشياء، فتكسو المروج نبتا أخضر.smileofswords@